إن التطور إذا شابته المغالاة والاندفاع إلى المخاطرة، فإن علينا أن ننتظر سلوكاً آخر يأتي لتصحيحه، هذا ما اقتنع به الفيلسوف [جيان بياجيه] في كتابه "بين التطور والسلوك" وهو قول يدل على صدقه ما وصلت إليه الحضارة الغربية اليوم، فالإفراط والمغالاة في استعمال العقل أفضى إلى الجنون الحضاري الذي عليه الغرب حاضراً، كما حرف سفينة التقدم عن مسارها الطبيعي، وجعلها تأخذ وجهة مجهولة.
وأمريكا اليوم بقيادة [جورج بوش] صورة لا غبش يكتنفها لما اعترف به هذا الفيلسوف الغربي، وإن كانت تبدو في أوج قوتها إلا أنها في واقع الحال تحتضر، والسبب دائماً مغالاة، وإفراط، وغرور في استعمال هذا العقل الذي جعل من أمريكا قوة لا تضاهيها قوة ، ولا يقف قبالتها رادع، والتاريخ الصدوق علمنا أن كل أمة تعالت استكباراً على النعمة التي دوامها العدل ثم انحازت لإمبراطورية الظلم تداعت بكل تلقائية، لأن الظلم ظلمات يلف الأبنية والقدرات الحضارية، وفي نهاية المطاف يدكها دكاً.
إن العقل الذي يعد السلطان القائد والمؤسس للحضارات -كما دلت على ذلك آيات القرآن الكريم في مواضع معرفية جمة- بفضله عرج هذا الغرب سلم التطور والازدهار ولبس ثوب التقدم بعد أن كان غائراً في مستنقع الإنحطاط، وسراديب البؤس والتخلف. واليوم معظم المفكرين والمنظرين من فلاسفة وعلماء غربيين بدؤوا ينظرون إلى واقعهم المعيشي بشيء من العقلانية، وبشيء من النقد الموضوعي لتدارك الوضع وما تبقى من هذه الحضارة الغربية التي بدأ سقفها يسقط عروة عروة.
كما بدؤوا في مراجعة منجزاتهم العلمية كالذي حدث على سبيل المثال مع المخترع السويدي [الفريد نوبل] واهب الجائزة المعروفة "جائزة نوبل" بحيث شعر بوخز الضمير وأنه اقترف جريمة في حق الإنسانية بعد اختراعه للديناميت، وأيضا مخترع القنبلة الذرية [أوبنهايمر] الذي بكى بكاء الأطفال في إحدى محاضراته قائلا: إنني مجرم كيف أستطيع الآن إيقاف الانشطار النووي؟ إن
التسابق العلمي خلال القرنين الماضيين لم يكن للمسلمين للأسف الشديد فيه أي نصيب.
لقد كان الاكتفاء فقط بالتفرج على الأمم الأخرى وهي تصنع الحضارة والتاريخ. وحتى الفرجة لم تقتصر على الفهم الصحيح فيما بعد، بالقدر الذي يحرك العقل كرّة أخرى ويرتب الأفكار وفق النمطية الحضارية الغربية - هنا المقصود بالجانب المادي -الجديدة من أجل الإقلاع، فكانت الفرجة بانورامية بهلوانية الهدف منها المتعة الآنية، والغد تدبيره في الغيب.
فالعقل المسلم أصيب بالجمود وحنط ولم يعد يتحرك إلا على حواشي الحضارة بدلاً من لبها. كما أن العلاقة مع الحياة الفاعلة أضحت محكومة بمنطق النعامة، والرتابة في كل شيء. ولم يتفاعل العقل المسلم بالكيفية اللازمة مع محيطه الجديد ومع متطلبات عصره المتسمة بالتحديات وبوجوده على ظهر هذه الأرض، على الرغم من أن العقل أصبح أخطر سلاح كما يقول الفيلسوف «مارتان هايدي» تستعمله الفرنجة من أجل إبادتنا بالجملة والمفرق نحن المسلمين.
وعندما استفاق بعض المثقفين ممن نهلوا النزر اليسير من ثقافة الشرق، وفهموا لغة الحضارة الغربية فهماً قشورياً أو جزءاً منها بالمقلوب كان تفكيرهم منصباً حول الميوعة العقلية، أنقلد الغرب في كل شيء أم نترك الغرب يفكر بدلاً منا ونأكل مما يجود به من أفكار؟ فكانت المصادمة المباشرة مع العقل المبدع، والفكر الصافي ليترتب على ذلك تفريط مفضوح للخصوصية الإسلامية التي من أساسها العقل، قال سبحانه وتعالى: «قل انظروا ماذا في السموات والأرض» (يونس: 101).
إننا مطالبون اليوم بالتبصر أكثر، والعمل أكثر،واستعمال العقل الهبة الربانية أكثر فأكثر. ولا يوجد أمامنا خيار سوى أن نرفع أنفسنا إلى مستوى الحضارة ونجمع شتاتنا من دون شطحات فكرية.
ولنا في التراث الإسلامي كل الكفاية والشفاء من أدوائنا التي هي من نبع أنفسنا، ومن الخزي والعار أن نظل نتسَقَّط الأفكار من قمامة غيرنا ونجاريهم في كل ما ينفعنا ولا ينفعنا، ونحن نرقد على كنوز لا يمكن لها أن تنضب إلى يوم القيامة وهي نفس الكنوز التي استفادت منها الحضارة الغربية في رفعها لقواعد البناء في شتى المجالات العلمية والمعرفية، وفي هذا الصدد يقول المفكر العالمي رشدي فكّار رحمه الله:"حضاراتنا لم تقف عند حد التنوير لدروب وممرات العصور الوسيطة المظلمة الأوروبية، وإنما أعطتها الاستنارات الأولى وفي مختلف الجبهات من اكتشافها لأبوتها الإغريقية الرومانية، فشرّاح فلسفة الإغريق أساسا وفي غالبيتهم من علمائنا، من ابن سينا والفارابي والرازي حتى ابن رشد، إلى اكتشافها أيضاً لقدرات العقل سواءً لمعرفة الطبيعة أو الإنسان"
فمن ينكر أو يتنكر، يجهل أو يتجاهل هذا النتاج الإسلامي الذي ترجم جانب كبير منه إلى اللاتينية انتحالاً بمعنى ترجمة المخطوطات دون الإشارة في العديد من الأحيان إلى مؤلفيها وإنما تعمد إسقاطهم، أو تحاشى ذكرهم ليس فقط فيما يعني الفلسفة والإنسانيات، وإنما في علوم الطبيعة والرياضيات، فقد كان لنا العديد من الأسماء القادرة التي أُخذت الشعلة من أياديها لا ليحملها أبناؤها وأحفادها، وإنما ليحملها الآخر، نذكر «البيروني» و«جابر بن حيان» و«الحسن بن الهيثم» كما نذكر «الرازي»، و«ابن سينا» وغيرهم، وغيرهم الكثير في الفلسفة والإنسانيات، و الفلك والكيمياء والطبيعة والرياضيات؟ مخطوطات من هنا ومن هناك انتحلت باللاتينية لتشكل أرضية من بين الأرضيات التي جسدت أساس بناء حضارة الغرب.
لكن وعلى ما تحويه مخطوطاتنا الإسلامية من أنوار معرفية كان لها الفضل الأكبر على حضارة الأولين من الغربيين، وهذا لا ينكره إلا جاحد، ومن يقرأ كتاب المستشرقة الألمانية [زيغريد هونكه] "شمس العرب تسطع على الغرب" يعرف حقيقة الحضارة الإسلامية وما قدمته من زبدة العلم والمعرفة للبشرية قاطبة في ذلك الزمان،لكن يجب التنبيه إلى نقطة جوهرية في الطرح الغربي لكل ما يتعلق بالحضارة الإسلامية هي كونهم يتعمدون ذكر العرب دون أي إشارة للمسلم – ومعلوم أن الحضارة الإسلامية لم يبنها فقط العرب بل بنتها أمم من كل الأعراق - وهذه مغالطة لإبعاد الإسلام من أي مقاربة حضارية، ولا يظنن أحد أن الغربيين لم ينتبهوا إلى ذلك ولكن لحاجة في أنفسهم هم يقومون بذلك.
عندما نحاول النظر إلى ما يمكن أن يكون عليه واقعنا نجد أن الإشكالية تقع على عاتق عقل المسلم وذلك من غير إفراط ولا تفريط. وكما تتم اليوم محاربتنا بالعقل من قبل أحفاد [غورو واللمبي وريتشارد قلب الأسد] فليكن سلاحنا استخدام العقل بعد أن نحدد ما نريد .
ويعجبني ما كان يقوله المفكر [مالك بن نبي] عن المسلمين المعاصرين كونهم دائما ينطلقون في مشاريعهم الحضارية من عقدة الفشل الحتمي، ودائماً يفشلون في النهاية. والسبب هو فقدان الثقة وعقدة الصغار أمام الآخرين، وحري بنا أن نسوق ما قاله أيضا [رشدي فكّار] حول ما نبه إليه الأستاذ مالك بن نبي "إنه لمن الخطأ أن ينظر إلى الحضارة الغربية على أنها خارقة وشاذة ومتميزة، إلى غير ذلك من النعوت التي سعى البعض إلى النفخ فيها وتضخيمها تيئيسا للآخرين حتى يخامرهم القنوط، وتضعف فيهم الهمم، فيتقبلوا بقناعة سيادة الغرب التي لا تقهر، وصولجانه الذي لا تحده حدود، حضارة الغرب ليست معجزة، وإنما هي مرحلة من مراحل تاريخ الإنسانية، نعبرها اليوم للأسف في موقع المسود لا السائد،بعد أن كنا وخلال ما يقرب من ألف عام محوراً رئيسياً من محاور الكون ومصدراً أساسياً من مصادر إشراق الإنسانية وإشعاعها".
إن البناء الحضاري الذي يتوجب على المسلمين القيام به والإلتزام به، هو ذاك البناء الذي لا ينطلق من فشل مسبق، ولا ينطلق ليهدم بل يعالج ، لكن شريطة الاهتمام بالعقل ومستلزمات التفكير الصائب.
__________