المجاز والحقول الدلالية [ الجزء السادس]
[b]وجه الشبه في التشبيه:[/b]
يقول الجرجاني( وهكذا إذا استقريت التشبيهات، وجدتَ التباعدُ بين الشيئين كلما كان أشدَّ، كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوسُ لها أطرب، وكان مكانُها إلى أن تُحِدث الأريحيّة أقرب، وذلك أن موضعَ الاستحسان أنك ترى بها الشيئين مِثْلَيْن متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض... فالشيء إذا ظهر من مكان لم يُعْهَد ظهوره منه، وخرج من موضعٍ ليس بمعدِنٍ له، كانت صَبَابةُ النفوسِ به أكثر)
فيشير عبد القاهر هنا إلى أن وجه الشبه حين يكون بعيداً في التركيب التشبيهي يكون إلى النفس أقرب وأحلى وقعاً، فكل تشبيه قريب التناول إما بكثرة الاستعمال أو بتقارب الطرفين في مصدرهما هو تشبيه ميت لا يلفت نضر المتلقي ولا يثير إعجابه
والتشبيه البعيد والذي يرتبط بالغرابة والذي يحتاج إلى تأمل المتلقي بحيث يثير إعجابه ودهشته ما هو إلا دليل على فصاحة وبراعة الكاتب.
فالاستعارة تختلف عن التشبيه في أن التشبيه يأتي فيما ظهر وجهه، وفيما خفي وبعد، وكلما احتاج إدراك الوجه إلى أمعان فكر وتدقيق نظر كان اغرب وأجود ولكن الاستعارة بعكس ذلك، ينبغي أن يكون الوجه فيها جلياً لئلا تصير لغزاً من الألغاز، وكل استعارة ينبغي أن تصلح للتشبيه،ولكن ليس كل تشبيه صالحاً لأن يكون استعارة.
ولكن عبد القاهر يستدرك كلامه في حديثه عن التباعد بين الأطراف (اعلم أني لست أقول لك إنك متى أَلَّفتَ الشيء ببعيد عنه في الجنس على الجملة فقد أصبت
وأحسنت، ولكن أقوله بعد تقييدٍ وبعد شرطٍ، وهو أن تصيبَ بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر شبهاً صحيحاً معقولاً، وتجد للمُلاءمة والتأليف السويّ بينهما مذهباً وإليهما سبيلاً وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب تشبيهك، من حيث العقل والحَدْس، في وضوح اختلافهما من حيث العَين والحِسّ، فأمَّا أن تستكرهَ الوصف وتَرومَ أن تُصوَّره حيث لا يُتَصوّر، فلاَ لأنك تكون في ذلك بمنزلة الصَّانع الأخرق، يضع في تأليفه وصَوْغه الشكلَ بين شكلين لا يلائمانه ولا يقبَلانه، حتى تخرج الصورة مضطربةً، وتجيء فيها نتوء، ويكون للعين عنها من تفاوتها نُبو)
فإن التباعد بين الأطراف والإتيان بتشبيهات أطرافها ليست قريبة ويعمل الشاعر على جمعها والتوليف في صورة تشبيهيه جامعة، فهذه غاية التشبيه الجيد،كقول الشاعر:
كانت قناديل المدينة كالشرايـين النوازف
والجو يلهث،كالمداخن فوق أكتاف العواصف
وهناك مذعور ، بلا حانٍ على الأشواك عاكف
كالطائر المجروح،في عشٍّ بأيدي الريح واجف
لقد قرن الشاعر بين أشعة القناديل الدائمة الانسكاب ، والشرايين التي تتدفق منها الدماء، وعلى الرغم من أن كلا الطرفين يتباينان في واقعهما الخارجي،(وقد جمع الشاعر بين ظواهر تبدو متباعدة ،بل متناقضة بمقاييس الواقع الخارجي، فكيف يمكن أن تكون القناديل شرايين نازفه، أو أن يكون للعواصف أكتاف ؟ لكن الشاعر ألف بينهما مرتكزاً إلى مقاييس داخلية،بحيث أظهر الأشياء المتناقضة متوافقة مع حالته المذعورة، هذا البعد في أركان التشبيه أكسب الصورة جواً من المتعة والاستمتاع
أما إذا تولد التشبيه من افتراضات وهمية يقبع العقل على بابها يتربص كل واحدة منها ليقبض عليها بأداة التشبيه سوف لا تشف عن دلالة شعورية ولن تبين عن مرائي وجدانية.
فعندما يقول أبو نواس في وصف الخمر:
أُشَبِّهُها وَقَد صُفَّت صُفوفــــاً بِأَشياخٍ مُعَمَّمَةٍ قِيــــــــــــــــــــــامِ
يَشُجُّ القَطرُ أَرأُسَها وَتَسفـــي عَلَيها الريحُ عاماً بَعدَ عــــــــــــامِ
فَجاءَت كَالدُموعِ صَفاً وَحُسناً كَقَطرِ الطَلِّ في صافي الرُخـــــامِ
فأنت تراه يعتمد على وصف المظهر الخارجي قاطعاً بينه وبين سواه مما هو أو شج وأعمق بصدمك لفظ (أشبهها) التي تؤكد أن هناك قصداً عقلانياً وإشارة لحوحة إلى الفاصل السميك بين المشبه والمشبه به. فصفوف الخمر تشبه الشيوخ المعممة ولا علاقة نفسية بين المشبهين. ولا نجد إلا القفز المتسرع لالتقاط التشبيه مع بعد مابين كل فقرة وأخرى (فجاءت كالدموع)ثم دلالة المعنى المشترك الذي يحدده بقوله " صَفاً وَحُسناً " وكذلك الفقرة التالية والتي جاءت فيها الخمر كقطر الظل في اللون، بالإضافة إلى الصورة المقززة رؤوسايجب أن لا تكون العلاقة واضحة وضوحاً تاماً بحيث لا تحتاج إلى تأمل أو تدبر، وفي الوقت نفسه ألا تكون بعيدة مبهمة. وذلك لأن وضوحها التام وانكشافها الكامل لدى المتلقي،يفقد الاستعمال التشبيهي عنصر تأثيره. من حيث أنه يكون عندئذ مبتذلاً، لا تحس النفس معه بلذة التشبيه و ذلك لأن العلاقة إذا لم تكن واضحة وضوحاً تاماً، فإنها تثير في المتلقي انفعال التشويق،والتطلع إلى معرفة الدلالة المقصودة التي يريدها المتكلم ويشير إليها هذا الاستعمال ، حتى إذا وصل إليها تحس نفسه حينذاك باللذة والمتعة وهذا لا يمكن الحصول عليه مع وضوح العلاقة وانكشافها للمتلقي تمام الانكشاف. كما أن إبهامها يورث إبهام التعبير وإلغازه فلا يكون بياناً.
إن انعدام المعنى والسقوط في هاوية غير المعقول هو ما يخيف الجرجاني وهو الذي دفعه إلى اشتراط الصفة المهيمنة في الاستعارة لأنها الضمان الوحيد للتأويل،وإذا كان الجرجاني أمام التشبيه،لم يتقيد بتلك الصفة المهيمنة فلأن حضور الطرق الثاني ينفي بعض مزالق التأويل بالشروط التي ذكرها وهو عدم الإيغال في الغرابة لحد ذاته.
ولقد كان موقفُ البلاغيين المعاصرين بالنسبة للتشبيه والاستعارة شبيهاً بموقف الجرجاني ، فيقول روبول متحدثاً عن علاقة التشبيه بالاستعارة:
"كثيراً ما قيل إن الاستعارة تشبيه مختصر، وفي الواقع يمكن تمييز أربعه مستويات:
ـ التشبيه الحقيقي: لهذه المغنية صوت رخيم كصوت العندليب
التشبيه المختصر الذي لا ينص على وجه الشبه: هذه المغنية تغني كالعندليب
ـ الاستعارة ذات الطرفين الحاضرين (التشبيه البليغ )هذه المغنية عندليب. حذف الأداة
ـ الاستعارة ذات الطرف الواحد الحاضر حيث يحذف المشبه نفسه(هذا العندليب) والمقصود المغنية.إنها جميلة كشاحنة ، لا يمكن أن يختصر القول(إنها شاحنة ) أو (هذه الشاحنة ) فعندما يكون التشبيه متباعد الطرفين لا يمكن اختصاره في الاستعارة
ذات الطرفين الحاضرين أو في استعارة ذات الطرف الواحد الحاضر . فهو يرى عدم إمكانية تحويل التشبيه ذي الطرفين المتباعدين إلى تشبيه بليغ فكيف بالاستعارةوهكذا نجد أن المطالبة بالوضوح في الاستعارة وعدم الإغراب في التصوير، وفي المقابل عدم الممانعة من الإتيان بصور فيها شيء من الغرابة في التشبيه ،بشرط عدم الإيغال في الغرابة والبعد،اتفقت نظرة القدماء مع المعاصرين،لكنه لا ينبغي فهم ذلك بعدم الإتيان بصور جديدة فيها ابتكار وجدة وخروج عن دلالات الطرفين إلى جديدة قد توحي من النظرة الأولى بعدم اشتراك الطرفين بدلالة،ولكن بعد إمعان النظر نجد إمكانية التأويل،حسب الحال والسياق وظروف الطرفين.