صهوة الضاد
نبيلة الخطيب هـل السـراة كمـن هبـوا لهـا صبحا
و العاديـاتُ بــذاك المُلتقــى ضَبْحـا
ف الليـلُ أغطـشَ حتى كـاد ينكرهــم
و الفجرُ أَوْحى بطرْف النُّـور مـا أوحْـى
قالــوا فــردَّدت الأيــامُ خلفَهُـمُ
و أسهبَ الدهـرُ في أشعارهـم شَـرْحـا
سنـُّوا الحروف فللأفكــار صولتهـم
و فـي صَليـل القوافـي أَدْرَكـوا الفَتْحـا
قـريضُهـم مـلأ الدنيـا و شـاغَلَهـا
أََدْنى هجـاءً و أعلـىَ مُسْبِغــاً مَدْحــا
حينـاً يَشـِبُّ وَعِيــداً أو مُساجَلَــةً
و مـن شِفــاهالمنايــا ينبـري رُمْحـا
قـد يضْـرِمُ الحربَ إن مارتْ مراجِلُـهُ
أو يُبـدِلُ الحـربَ مـِنْ إحكامـه صُلْحـا
و قـد يُريبُ خـوافٍ فـي مَـواكنِهـا
و يَقلـِبُ الصُّبـحَ فـي لألائـه جُنْحــا
أو يغمـُرُ النفسَ فَيـضٌ مِنْ سَكينَتِــهِ
و يسْتحيــلُ وديِعـاً مُؤمنــاً سَمْحـا
يَستْرضِبُ الغيضَ مَـنْ غاضَتْ قناعَتُـهُ
من يُغْدِقُ الشِّعْرَهل يستَمنِحُ الرَّشْحا؟!
تَزْهو الحضـارة حيثُ الشِّعـر سادِنُهـا
تَـذْوي فيرتفـع مـن أطلالهــا صَرحـا
يغـدو رسـولاً لهـا حتـى يخلِّدَهــا
و يرسُـمُ الوهْـدَ في تصويرهـا سفحـا
حــاٍد حفــيٌّ إذا الأيــامُ قـافٍلـةُ
تمضـي فينشـر فـي أذيالهـا الـرَّوحْـا
و الشٍّعـرُ لَحـنٌ و أوتارُ الحـروف إذا
مـا هَـزَّها الوجْـدُ ينسـابُ الجـوى صَدْحا
يـا للغنـاء الـذي يُشْجـي مَواجِعَنـا
يَشْـدو الحيــاةَ و فينـا يُعْمـلُ الذَّبْحـا !
إنْ مَسـهُ الشـوْقُ أو أَنَّ الحنينُ بـهِ
يَنُضَّـه القَلـْبُ مـن وهْـجِ الحَشَـا بَرْحـا
و إنْ تَجمّــَلَ و الأهــواءُ خائنــةٌ
تَـذروْهُ فـَوْقَ جِراحـات الهـوى مِلحـا !
يجـودُ بالنبـضِ و الأعصـابُ ناضِبـةٌ
لا تَسْألـوا الجـُرْحَ أنـّى نزفُـهُ سَحـاَ !
يدنـو كظبيٍ مـن التصريـحِ في وَجـَلٍ
قَــدْ راعَـهُ السَّبـعُ أَنْ بادَرْتـَه البَوْحـا
ظـِـلٌّ ظَليـلٌ و لكـنْ لا ظـلامَ بــه
يَـرْمـي بشُهْبِ المعانـي تَخْطِـفُ اللّمْحـا
و من خُـدور النوايـا إن لـه خَطَـرتْ
خَنْسـاءُ خـَفَّ إلـى اسْتِحْيائهـا سَفحـا
فـإن وَشَـى بِلَهِيـبِ الشَّـوقِ لاعجُـهُ
يُدِِِنــِكَ مَـنْ كُنْتَ ترجـو عِنـْده الصَّفْحـا
إنَّ اللســانَ الـذي أَجّـَتْ مناهِلُــهُ
لا يستبين له نصح وإن صحّــــا
كأنــه كُثـُبٌ أَودعْتهــا غَدَقـــا
فـإن هَفَــوتَ لهيفــاًِِ صاديــاً شحـا
لا يلتقـي الليـلُ والإشـراقُ في زَمَـنٍ
مـَنْ رَامَ ذاكَ فـلا أََمْســى و لا أَضْحـى
ديوانُنـا الشِّعْـرُ كـم ضاجَتْ مَضَارِبُـهُ
و ضُمِّخَـتْ فَزَكـَتْ مِـنْ ضَوْعهـا نَضْحـا
أَيـْـكٌ و أيُّ فُنــونٍ فـي نَضَارَتِـهِ
ففــي يَبـابِ البـوادي قَـدْ غَـدا دَوحْــا
نَفْـحٌ مـن الرَّنـْد تُصْبي القلبَ غَدْوتُهُ
شـَذا البديـعُ علـى أَعْطافِــهِ فـَوحــا
تعـدو الفنـونُ و فـي إبْطائِـهِ خُبـَبٌ
جَهيـدَةَ اللهـثِ ، أنـّى تُـدركُ المَنْحــا ؟!
قِوامُـهُ الضــادُ و الأضـدادُ تَغْبطُـهُ
هَيهــاتَ تَرْقـاهُ ، جَـزْلاً مُعجِبــَاً فَصْحـا
يَخْتـالُ فيهـا كطـاووسٍ فترمقــهُ
حَسِيـرةَ الطـرف و ارى كيـدُهــا القـَرْحا
ثَـرُّ البلاغـةِ يُثـري حَيـْثُ تَنْثُــرُهُ
تـلكَ السَّنابــل ُ يُربْـي ذَرُُّهــا القَمْحـا
تـَشتـدُّ فـي إثـرِهِ الأقـلامُ راعِفـةً
وهجــاَ فيـوري بألبـابِ الـورَىْ قـَدْحـا
كأنهُ البحـرُ يَخشْى المـرءُ غَضْبَتَـهُ
و إنْ أنــابَ يَجُــبْ أنــواءَهُ سَبْحــا
كأنه الريْـحُ إنْ هـاجَـتْ مُحَمْحِمــةً
مـَنْ ذا يُطيقُ إذا مــا اسْتُنفِـرتْ كَبُحـا ؟!
هذا هـو الشِّعـرُ لا فُضَّـتْ مجالسُــهُ
و لا اسْتحالـتْ أهازيــجُ المُنـى نَـوْحـا
هذا هـو الشِّعـرُ صهـواتٌ مُطَهَّمــةٌ
مَرُحَــى لخيَّالهــا إنْ أَقْبلـتْ مَرْحــى
لا يَضْمَحِـلُّ و قــد فاضَـتْ منابِعُــهُ
نضّاخَــةَ الحُسْـنِ لا تنضـو و لا تَضْحـى
اللهُ أكبـرُ حتـى حِيــنَ أَعْجـَزَهــا
ربُّ البيــانِ فكـان الوحـيُ بـالفُصْحـى
كثيراً ما تغنى الشعراء ، والأدباء باللغة العربية ، واحتفوا بها ، مشيدين ببلاغتها ، وشرفها ، وقدستها ، وكان القرآن الكريم ، والشعر العربي شاهدهم الذي يسعفهم في هذه الإشادة.
والشاعرة نبيلة الخطيب مثال لما ردده كثير من هؤلاء ، إذ حلا لها أن تجعل من عنوان قصيدتها معنى لما عرف به اللسان العربي بأنه لسان الضاد ، وأن هذا الضاد ، أو اللسان هو الصهوة التي امتطاها البلغاء ، والكاتبون فصالوا وجالوا في ساحات البلاغة العربية .
وهي في ذلك تستهل قصيدتها بالاقتباس من معين هذه اللغة القرآن الكريم في إشارة منها إلى سورة العاديات.
لتقول بأن الحاضر ليس كالماضي فقد ابتعدنا عن اصول هذه اللغة وعظمتها حتى كاد ينكر الماضي حاضرنا وهو أداء شعري جميل تجلى فيه الاختزال الشعري الموحي إلى معانٍ ودلالات متعددة من خلال عتمة الليل ، وما يمكن أن يقوله الفجر ، ولعل الليل هو الحاضر ، والفجر هو الماضي الذي يعيب علينا ضياعنا لكثير من أصول هذه اللغة ، وانحرافنا عن مسارها أو لنقل جهلنا بأساليبها ، وقواعدها ، وكان هذا متكأ مناسباً للشاعره لكي تشيد بماضي هذه اللغة؛ منتقية الشعر العربي شاهداً على عظمتها ، ومستشهدة بخلوده على مرِّ الإيام ، والسنين ، والعصور.
ومن الشعر انطلقت ، وفي الشعر قالت ما اتفق عليه الباحثون والشعراء في أثره، ووظيفته الحيوية ، فهو المحفِّز لهممهم في الحروب ، وهو السلاح الماضي الذي يفعل ما يفعله السلاح المادي بالعدو ، وهو المثير للحروب ، أو الداعي إلى السلام ، وهو السفير الذي يسافر في كل الدنيا بجناحين لا يدانيها جناحا الطائر المهاجر ، وهو الذي يغمر النفس هدوءاً وسكينة ، ولذة فلا تمله النفوس في ازديادها منه وإذا هجا وضع وإذا مدح رفع وهو الحضارة، والعلم وديوان العرب ، ورسولهم إلى مجد التاريخ ، وتراثه.
وجمالية الشعر ومكانته في النفوس تأخذ بلسان الشاعره وأفكارها إلى الإطراء ، والمديح وتعداد مناقب ومآثر الشعر وأثره في الذات والمجتمع في تشبيهات جميلة تعبر عن حب الشاعره واعتزازها بهذا الشعر ، لترى في هزيمة الشعر أمام بلاغة القرآن دليلاً على سمو قدره ومكانته .
ومما يلاحظ أن الشاعره كررت حرف (الضاد) الذي اختارته عنواناً لقصيدتها ثمانية وعشرين مرة؛ أي على عدد حروف اللغة العربية.
كما أن حرف (الظاء) لم يرد إلا في بيتين فقط يحملان معاني (الظلال) و (ظلال المعاني) وأن حرف الثاء قد ورد في ثماني مرات نصفها في صدر البيت الذي يحمل معاني الثراء ثرُ البلاغة يثري حيث تنثره ، أي أربع مرات على عدد حروف كلمة (يثري) والأجمل من ذلك أن حروف عنوان القصيدة قد جاءت موزعة ، أو منثوره في مطلع القصيدة.
ومن يقرأ القصيدة يشعر بأن الشاعرة تغني أبياتها ، وتوقع ألفاظها وتميل معها كلما استبد بها الطرب واشتد بها الشوق والحب لعظمة اللغة العربية ومكانة الشعر فيها .
كما يقف على الآهات الحرّى حين تنفثها حسراتٍ على حال اللغة بل ربما على حال الأمة وما آلت إليه من ضياع بعد أن أضاعت مجدها الأثير المؤثل.
فنبيلة الخطيب ذات نفس شفافة ، وتجربة ناضجة ، مما يمنحها القدرة على انتقاء ألفاظها ومعانيها ورسم صورها والتحليق بخيالها الشعري الجميل مما أحال قصيدتها إلى لوحة فنية أبدعتها ريشة فنان مرهف قد اختار لها أجمل الألوان.
من كتاب محاضرات في النقد الأدبي الحديث
د. عبد الحق حمّادي الهوّاس