كأنما كان عليه قبل التوجه إلى أمريكا لإجراء عملية في القلب أن يودع شعبه بأمسية هنا وأمسية هناك ..كان في الفترة الأخيرة مسكونا بعطاء استثنائي سريع مما جعل قراءه ومحبيه يستغربون هذا التواتر السريع في صدور كتبه بشكل متلاحق .. عاد إلى الوطن أو الوطن المجتزأ ليشاهد ناسه وأهله ثم يرحل هناك في أحد مستشفيات أمريكا مساء اليوم 9/8/2008 بعد أن أزالوا أدوات الإعاشة بناء على توصية منه قبل إجراء العملية فما أراد أن يعيش معاقا أو شبه معاق ..ترجل الفارس ، فارس الشعر العربي والفلسطيني ، تاركا بصمة بحجم العصر الحديث كله رفعت اسم فلسطين عاليا في كل مكان كونه الشاعر الأكثر ترجمة إلى اللغات العالمية والأكثر حصولا على الجوائز العالمية المرموقة بين الشعراء العرب في العصر الحديث ..
رحل ابن البروة الذي ولد يوم 13/3/1941 بعد أن كحل عينيه برؤية والدته حورية التي كتب له أجمل قصيدة كتبت للأم " أحنّ إلى خبز أمي /وقهوة أمي ".. وهي القصيدة القديمة الجديدة التي ظلّ محافظا على دفئها ورونقها ورومانسيتها رغم كل التطور الذي أحدثه في شعره وفي حركة الشعر العربي بشكل عام ..فقصيدة درويش التي جمعت الآلاف دائما من الحضور الذي شكل ظاهرة عربية فريدة في زمن انصرف الناس فيه عن كل ما هو أدبي وثقافي لفتت الانتباه والدهشة ، كون أمسيات محمود درويش كانت الأكثر حضورا بل كثافة جماهيرية في كل العواصم العربية ..كان شاعرنا الكبير يشدّ الجمهور بالآلاف ليلتفوا مأخوذين بصوته وشعره ونبرته وطريقة إلقائه ..وهو الشاعر الذي شكل مدرسة شعرية أثرت في الشعر العربي كله لا الشعر الفلسطيني فحسب . . كان متنبي العصر بامتياز كونه لم يتخل عن عمق القصيدة وجديتها ووطنيتها مع المحافظة على الجماهيرية المطلقة .. ونعرف أنّ شعراء كثرا دغدغوا عواطف الجمهور ليصلوا إلى الامتداد والانتشار ، بينما بقي درويش صاحب عمق وأصالة وتجديد جعله يأخذ الجمهور إليه رافعا إياه إلى عالم القصيدة الملتزمة بفنها فحقق أروع معادلة عجز عن تحقيقها الكثيرون إن لم نقل الجميع إلا فيما ندر ..
كان شاعرنا الكبير محمود درويش من أشد الشعراء انتباها لفنه ولغته وشعره ..ومن يقرأ دواوينه " عصافير بلا أجنحة "19660 .."أوراق الزيتون " 1964 .."عاشق من فلسطين " 1966 .."آخر الليل نهار " 1967.. " يوميات جرح فلسطيني " 1969ثم ما صدر من دواوين في العام 1970مما يدل أنه كان ينهي مرحلة شعرية ما ارتبطت بوجوده في الداخل قبل خروجه في العام 1970 سيجد أنّ هذا الشاعر كان واعيا لقصيدته منتبها لها منذ البدايات ..وهذه المرحلة الأولى لم تكن عادية أو قريبة من العادية بأي حال ، فدرويش يسجل في هذه المجموعة من الدواوين قفزة نوعية تشكل أرضية حقيقية لتطوره اللاحق الذي سيكون إنجاز الشعر العربي بكامله فيما بعد ..
المستوى الذي وصل إليه محمود درويش في " كزهر اللوز أو أبعد " 2005 كان تطورا لا نقول إنه طبيعي في مسيرة شعر الشاعر أو مسيرة الشعر العربي .. كان المنجز الشعري عند درويش في صعود دائم وبما يشكل قفزات تشعرك بأن هناك ما يشبه الفجوات كون الشاعر يقفز قفزات سريعة وطويلة جعلت حضوره الشعري لا مثيل له .. حيث استوعب الشريحة المثقفة كما الشريحة العادية لتتواصل معه مؤمنة انه صوتها الأكثر إخلاصا للمنجز الشعري العربي ..فكانت من دواوينه : «مطر ناعم في خريف بعيد» 1971, «أحبك أو لا أحبك» 1972, «جندي يحلم بالزنابق البيضاء» 1973, «الأعمال الشعرية الكاملة», «محاولة رقم7» 1974, «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» 1975, «أعراس» 1977, «مديح الظل العالي» 1982, «هي أغنية.. هي أغنية» 1985, «ورد أقل» 1985, «حصار لمدائح البحر» 1986, «أرى ما أريد» 1990, «أحد عشر كوكباً» 1993, «لماذا تركت الحصان وحيداً» 1995.
سيكون في " لماذا تركت الحصان وحيدا" شيء من العلاقة الخفية التي تربط الشاعر بديوان " كزهر اللوز أو أبعد " مع اختلاف شديد في التركيب والموسيقى والصور وشكل القصيدة وحتى الرتم داخلها ..وإذا كنا في مرحلة "لماذا تركت الحصان وحيدا " نتحدث عن الديوان الأخير – وهو اجتهاد شخصي – في المرحلة الثانية ، فهذا لا يعني انقطاعا عن المرحلة الثالثة التي بلغت ذروتها في " كزهر اللوز أو أبعد " فالشاعر الذي كان يغني ويطيل الغناء أبقى على أدوات غنائه لكنه صار أكثر اقتصادا في النشيد والصورة والرومانسية ..الشاعر هنا يبحث عن اليومي والعادي والذات والخصوصيات التي تمر في دقائقنا وثوانينا ..بمعنى آخر انتباه درويش الشديد إلى شاعرية شعره ، وأهمية فنه ، وأرقه من اجل قصيدة لا تكرر سابقتها وديوان لا يكون مشابها لما سبق كل ذلك جعله يغير في الشكل والصورة والموضوع والرتم والموسيقى والبناء اللغوي بشكل يدهش الدارس ويضعه في حيرة حقيقية ..فمحمود درويش هو محمود درويش بأنفاسه وعاطفته وجزء من رومانسيته ، لكن القصيدة ليست هي السابقة بالتأكيد ، هناك انقلابات تشبه انقلابات الطبيعة بين فصل وفصل ، فالصيف غير الشتاء ، والخريف غير الربيع ، لكن كل الفصول في النهاية تعود إلى مصبها ..كذلك قصائد محمود درويش في تطورها الزمني المذهل المدهش تشكل انقلابات كثيرة ثم تعود لتصب في مصبها بكل أناقة وجمال .. من الأعمال الشعرية في هذه الفترة كانت "." جدارية " 2000 .. " حالة حصار " 2002.."و.. لا تعتذر عما فعلت " 2004. إضافة لديوانه " كزهر اللوز أو أبعد " ..
رحم الله شاعرنا الكبير محمود درويش وألهم الله أهله وشعبه ومحبيه الصبر والسلوان.. كان شاعرا كبيرا استثنائيا استطاع أن يصل بقضيتنا الفلسطينية إلى كل مكان في العالم من خلال الكلمة التي كانت قنديلا لا ينطفئ ..