الفصل الرابع
اللهوفقاً للنظرة العملية القديمة، المادة أساسية والعقل ثانوي. وهذه البديهة تتجلى في أسلوب النظرة القديمة إلى الإنسان في العالم: نظرة زراية للعقل البشري وإعلاء لشأن الكون المادي اللامحدود واللاشخصي، تذهب إلى أن الإنسان، إذا قيس بالأرض أو الشمس أو المجرة، تافه من حيث الحجم وغير ذي شأن من حيث القوة. والنظرة القديمة تنكر على الإنسان ما تعتبره مغالاة منه في إحساسه بأهميته الذاتية قائلة: إن كوبرنيكوس (Copernicus) قد خلع الإنسان المغرور عن عرشه في مركز الكون، وأن عليه أن يدرك أنه مخلوق بالغ الصغر يسكن كوكباً تافهاً يدور حول نجم لا شأن له.
ذلك أن منطق المادية ينكر الغائية، ذاهباً إلى أن الكون ليس سوى مادة، وبالتالي لا يمكن أن يكون في الأشياء الطبيعية أي هدف، لأن المادة لا تستطيع أن تقصد هدفاً أو ترسم خطة، بل تتصرف بضرورة ميكانيكية داخلية فحسب. وبالتالي يتحتم على التفسيرات العلمية أن تقتصر على الأسباب المادية والميكانيكية فحسب. وبيكون (Bacon)، وديكارت (Descartes) كلاهما يستبعد من العلوم الطبيعية أي دعوة إلى الغائيه. يقول بيكون: «إن مطلب الغائية يفسد العلوم بدلا ان يرقى بها " و ديكارت يقول نفس الشىء " كل ضروب الغائية لا قيمة لها في الأشياء المادية أو الطبيعية». وصحيح أن هذا الرفض يستند إلى أسباب تتعلق بالمنهجية، إذ إن بيكون وديكارت لم يكونا من المؤمنين بالمذهب المادي أو من الملاحدة، ولكن النتيجة تظل واحدة، وهي أنه لا مكان للغائية في علوم النظرة القديمة.
فهل لله مكان في مثل هذا الكون؟ لقد كان نيوتن يؤمن بذلك، فحاول أن يحتفظ بمكان للألوهية في نظامه الميكانيكي الخاص بالسماوات. ففي رسالة وجهها إلى الدكتور ريتشارد بنتلي (Richard Bentley) في عام 1692 أكد نيوتن على أن الله ضروري لإحداث حركة الكواكب وإرساء البنية الأصلية للمجموعة الشمسية قائلاً: «إن حركات الكواكب الراهنة لا يمكن أن تكون قد انبثقت من أي علة طبيعية فحسب، بل كانت مفروضة بفعل قوة عاقلة».
وإذا كان نيوتن غير مستعد لاستبعاد الله من العلوم فلم يكن هذا شأن غيره. ومن أمثلة ذلك أن الرياضي والفلكي الشهير بيير –سيموت لابلاس –(Pierre Simon Laplace)، حين سأله نابليون عن مكان الله في نظامه الميكانيكي الخاص بالأجرام السماوية، أجابه بما يلي: «يا سيدي لست بحاجة إلى هذا الافتراض». وبحلول القرن التاسع عشر كان الكثيرون يذهبون إلى أن الله لا يرى بالعقل ولا بالعين. وأصبحت العلوم شيئاً فشيئاً أقرب إلى اللاأدرية (أو الغنوصية). والواقع أن لفظة «لا أدرية» كانت في ابتكار عالم الأحياء توماس هكسلي في عام 1869. ويعرب كارل ف. غاوس (Carl F. Gauss) وهو أعظم علماء الرياضيات في القرن التاسع عشر، عن هذه الشكوك فيقول: «هنالك مشاكل أعلق على حلها أهمية تفوق بما لا حد له، تلك التي أوليها للمسائل الرياضية، كتلك المتعلقة بالأخلاق، أو بعلاقتنا بالله، أو بقدرنا ومستقبلنا، ولكن حلها خارج كلياً عن متناولنا، وهو يقع كلياً خارج ميدان العلم».
وذهب مفكرون آخرون إلى أن العلم لا يفسح المجال للاأدرية. وحجتهم في ذلك أن الكون آلة تدير نفسها بنفسها وبالتالي لا تحتاج البتة إلى أي سبب فوق الطبيعة. وإذا كانت المادة أزلية فلا يبدو أن هناك حاجة إلى خالق. وهكذا اعتبر الكثيرون أن الإلحاد أدنى إلى الصدق وأكثر اتساقاً مع النظرة العلمية القديمة.
وفرويد هو أحد ممثلي هذا الموقف من الدين في النظرة القديمة، فهو يعلن أن «أديان البشر يجب أن تصنف باعتبارها وهماً من أوهام الجماهير». فالإنسان في الأديان إنما يبحث عن مهرب من الواقع. ويتابع فرويد حديثه قائلاً: «إن الأفكار الدينية نشأت من ضرورة حماية الإنسان لنفسه من قوة الطبيعة المتفوقة والساحقة». والناس في رأي فرويد يميلون إلى الاعتقاد بوجود أب وراء هذا الكون لأنهم، بوصفهم أطفالاً، بحاجة ماسة إلى رعاية أب. وهكذا فإن الإنسان هو الذي يخلق الله، لا العكس، ويضيف فرويد أن البشر «لابد لهم من أن يعترفوا لأنفسهم بكامل عجزهم وتفاهة دورهم في آلية الكون. فهم لا يستطيعون بعد اليوم أن يكونوا محور الخليقة أو موضع عناية آلهية خيرة». وفيما يتعلق بالدين يتنبأ فرويد بأن «هذه الطفولية Infantalsm مقدور لها أن تتجاوز بالتأكيد»، ويتحتم على الإنسان أن يتحلى بالشجاعة للاعتراف بأنه وحيد في هذا الكون الفسيح واللاشخصي.
وقد أنتجت النظرة القديمة في القرن التاسع عشر بعض المؤلفات التي تتسم بحماسة استثنائية وتهاجم الدين باسم العلم. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر أن عام 1975 شهد صدور كتاب «تاريخ الصراع بين الدين والعلم» (The History of the Conflict between Religion and Science) لمؤلفه جون و. دريبر (John W. Draper)، وهو أول رئيس للجمعية الأمريكية لعلوم الكيمياء. وبعد ذلك بعشرين عاماً، في 1895، ألف أندرو د. وايت (Andrew D. White)، وهو أول رئيس لجامعة كورنيل، كتابه «تاريخ المعركة بين العلم واللاهوت في المسيحية» (Ahistory of the warfare of Science with Theolgy in Christendom). ويكفي عنواناً الكتابين دليلاً على الاتجاه السائد آنذاك.
فماذا تقول النظرة العلمية الجديدة عن كل هذا؟ أولاً، إن لديها أنباء مثيرة عن الكون ذاته. يقول عالم الفيزياء الفلكية دنيس شياماً (Dennis Sciama) «لعل أهم اكتشاف علمي من اكتشافات القرن العشرين هو أن الكون بأكمله، بوصفه كلية واحدة، قابل للبحث العقلاني باستخدام أساليب علمي الفيزياء الفلك». وقد تيسرت هذه النظرة الجديدة إلى الكون بمجيء نظرية النسبية العامة لأينشتاين وهي، خلافاً لنظرية نيوتن في الفيزياء، قد جمعت بين الجاذبية والمكان والزمان. يقول ويلر: «لقد علمنا أينشتاين أن المكان عنصر مشارك في الفيزياء، لا ميدان للفيزياء فحسب». والشيء نفسه ينطبق على الزمان. وعملية التوحيد هذه زودت الفيزيائيين للمرة الأولى بأدوات البحث المفصل في بنية الكون بأكمله وفي أصله ومآله. فبعد نشر النسبية العامة رأينا الفلكي ويلم دي سيتر (Willem de Sitter)، والرياضي ألكساندر فريدمان (Alezander Friedmann) يستنتجان من النظرية الجديدة، كل على حدة، أن الكون آخذ في التمدد. وسرعان ما ثبت ذلك بالمشاهدة. فخلال العشرينات من هذا القرن اكتشف الفلكي ادوين هبل (Edwin Hubble)، أثناء تحليله للضوء المنبعث من المجرات البعيدة، أن جميع المجرات الممكن رصدها يتباعد بعضها عن بعض. وكان هذا هو أول مفتاح لأسرار تاريخ الكون. فإذا كانت المجرات تتباعد الأن بعضها عن بعض فلابد إذاً من أنها كانت في الماضي السحيق متحدة، مما يدل على أن للكون بداية.
ثم جاءت إشارة ثانية من مجال الفيزياء النووية. فلقد كان كيميائيو القرن التاسع عشر يعرفون أن الشمس لا يمكن أن تحرق وقوداً تقليدياً. فالاحتراق الكيميائي العادي لم يكن يصلح تفسيراً لطاقة الشمس، إذ لو كانت كتلة الشمس كلها فحماً لأحرقت نفسها في غضون ثلاثمائة عام. وظلت الشمس لغزاً إلى حين اكتشاف الطاقة النووية في السنوات الأولى من القرن العشرين. وأخيراً تمكن الفيزيائيان هانز بيته (Hans Bethe)، وكارل فون فايتزساكر (Carl Von Weizsacker) في عام 1938 من تقديم تفسير كامل لكيفية إنتاج الشمس للطاقة من خلال تحول العناصر النووية. ففي قلب الشمس يتحول لهيدروجين للطاقة من خلال تحول العناصر النووية. ففي قلب الشمس يتحول الهيدروجين إلى هليوم، منتجاً الطاقة والضوء. وعلى مدى ملايين السنين كانت العمليات التي تتم داخل كل نجم تكون شيئاً فشيئاً لا الهليوم فحسب، بل جميع العناصر الأثقل: الكربون والأكسجين والسليكون والحديد وسائر العناصر. وكان معنى ذلك أنه إذا كانت كل العناصر الثقيلة في الكون قد تكونت من الهيدروجين في قلوب النجوم فلابد إذاً من أن الكون كله تقريباً كان مركباً في البداية من الهيدروجين. وهذا يدل مرة أخرى على أن للكون بداية.
وأخيراً، تقدم الفيزيائي جورح غاموف (George Gamow) في عام 1948، بعد أن جمع الأدلة المستمدة من تباعد المجرات ومن دورة حياة النجوم، برأي مفاده أن الكون نفسه نشأ من تمدد بدئي للمادة أطلق عليه اسم «الانفجار العظيم». ويفترض أن كرة النيران فائقة الحرارة قد تمددت بسرعة كالانفجار ثم بردت. وباستخدام الفيزياء النووية بين غاموف كيف أن الجسيمات دون الذرية التي كانت موجودة في أسبق المراحل أنتجت، بتأثير درجات الحرارة والضغوط اللاحقة، ذرات الكون حديث لنشأة. وفضلاً عن ذلك بين أنه، نتيجة لعمليات التمدد والتبريد، لابد من تشتت وهج خافت من الإشعاع الأساسي بشكل منتظم في جميع أرجاء الكون.
وظل تنبؤ غاموف معلقاً طوال عدة أعوام. ثم اكتشف آرنوبنزياس (Arno Penzias) ، وروبرت ويلسون (Robert Wilson) في عام 1965، بمحض الصدفة، وباستخدام جهاز ضخم لالتقاط الموجات الصغرى، إشعاعاً ضعيفاً منبعثا من الفضاء. وبعد أن قاس بنزياس وويلسون هذا الإشعاع بدقة لم يسبق لها مثيل وجدا أنه يقرب من 3.5 درجة فوق الصفر المطلق. ولم يكن الإشعاع أشد كثافة في اتجاه الشمس أو في اتجاه مجرة التبانة (Milky Way). ولذا لا يمكن أن تكون المجموعة الشمسية أو المجرة مصدر هذا الإشعاع. فلم يبق إلا تفسير واحد وهو أنه بقية من الإشعاع الأصلي الناتج من «الانفجار العظيم».وهذا الدليل القائم على المعاينة أكد نظرية الانفجار العظيم.
فعالمنا، إذاً، تولد في أعقاب تمدد هائل في المادة. ويشير حجم التمدد ومعدل سرعته الحاليان إلى أن الكون بدأ منذ ما يتراوح ما بين 12 و20 مليار سنة. وفي جزء من السكستليون Sextillion (1000000 6) من الثانية بعد البداية كانت كل المادة الموجودة في الكون معبأة في مساحة أصغر كثيراً من الحيز الذي يشغله بروتون واحد. وكانت الكثافة في تلك المرحلة تهول الخيال: تصور أن الكواكب والنجوم والمجرات بكاملها، وكل المادة والطاقة في الكون كانت جميعها محتواة في حيز لا يكاد حجمه يعادل شيئاً. وفي لحظة الصفر من بداية الزمن كانت الكثافة غير متناهية دون حدوث أي تمدد في المكان على الإطلاق. وكانت تلك اللحظة لحظة بداية المكان والزمان والمادة. وينبغي ألا نتصور أن الانفجار العظيم أحدث تمدداً في المادة في مكان قائم بالفعل. فالانفجار العظيم هو نفسه تمدد المكان. وهذا يمكن أن يفهمه العقل، ولكن لا يمكن أن يتصوره الخيال.
على أن أنصار النظرة القديمة لم يرتاحوا إلى فكرة بداية مطلقة. ومن أجل ذلك استنبطوا نظريات بديلة في أصل الكون لاستنقاذ أزلية المادة. وقد وضع الفلكي السير فريد هويل (Sir Fred Hoyle) واحدة من هذه النظريات البديلة، هي فرضية استقرار حال الكون Steady –state Hypothesis. وهذه الفرضية تستلزم تولد الهيدروجين تلقائياً في جميع أرجاء الكون. غير أن اكتشاف إشعاع الأساس الكوني أدى إلى استبعاد هذا البديل بشكل قاطع.
وهناك فرضية أخرى طرحت تجنباً لافتراض بداية للكون، هي نظرية نوسان الكون Oscillating Universe. ومؤدي هذه النظرية أنه إذا كان في الكون كمية كافية من المادة فإن شد الجاذبية سوف يوقف في نهاية المطاف التمدد الحالي ويعكسه، بحيث ينتج من ذلك آخر الأمر انهيار ثان لكل المادة في ما قد يصح أن نطلق عليه اسم «الانكماش العظيم». وتوحي نظرية النوسان (الذبذبة) هذه بأن «انفجارا عظيماً» آخر يرجح أن يعقب عملية الانهيار، وأن الكون ربما ظل ينوس على هذا النحو بين عمليات «انفجار» و«انكماش» إلى الأبد. وبهذه الطريقة يمكن الحفاظ على أزلية المادة. وعلى هذه النظرية يعلق ستيفن فاينبيرغ مؤلف كتاب «الدقائق الثلاث الأولى» (The First Three Minutes)، وهو وصف دقيق للمراحل الأولى من نشأة الكون، قائلاً: «بعض المتخصصين في علم الكونيات تشدهم نظرية نوسان الكون فلسفياً، خصوصاً وأنها تتجنب ببراعة، شأن نظرية استقرار حال الكون، مشكلة النشأة الأولى. غير أنها تواجه صعوبة نظرية شديدة واحدة: ففي كل دورة من تمدد الكون وانكماشه تطرأ على نسبة الفوتونات إلى الجسيمات النووية (أو على الأصح درجة التعادل الحراري لكل جسيم نووي) زيادة طفيفة بفعل نوع من الاحتكاك يعرف بلزوجة الحجم (bulk viscosity). وفي هذه الحالة، في حدود ما نعلم، سيبدأ الكون كل دورة جديدة بنسبة جديدة للفوتونات إلى الجسيمات النووية تكون أكبر من سابقتها بقليل. وهذه النسبة ضخمة في الوقت الحاضر ولكنها متناهية، بحيث يصعب أن نتصور كيف يمكن أن يكون العالم قد مر في السابق بعدد من الدورات غير متناه».
وتستند حجة فاينبيرغ في هذه المسألة إلى نتيجة محتومة مترتبة على إحدى الخواص الجوهرية للمادة، وهي القانون الثاني للديناميكاً الحرارية. ويقول هذا القانون إن المادة إذا ضغطت سخنت وارتفعت درجة تعادلها الحراري (الأنتروبيا). وهكذا كلما ازداد عدد «الانكماشات العظيمة» للكون ازدادت حرارته ودرجة تعادله الحراري. وحيث إن درجة حرارة الكون ودرجة تعادله الحراري محدودتان في الوقت الراهن فلابد من أنه كانت له بداية. ومن المفترض أن يبدأ كل «انفجار عظيم»، في إطار نوسان الكون، بدرجة حرارة أعلى من درجة حرارة الانفجار الذي سبقه، ومن هنا لزم أن تكون درجة حرارة الكون في ختام سلسلة طويلة من الانفجارات العظيمة والانكماشات العظيمة أعلى كثيراً من 3.5 درجة مطلقة.
والواقع أن الحجج المستفيضة المتعلقة بالديناميكا الحرارية لا تشير إلى أي تكرار على الإطلاق في عملية التمدد الأصلي. يقول الفيزيائي سدني أ. بودمان (Sidney A. Blidman): «إن عالمنا لا يمكن له أن يرتد في المستقبل. والأكوان المغلقة المنسوبة إلى فريدمان (Friedmann) كانت تسمى فيها مضي الأكوان المتذبذبة. ونحن ندرك الأن أن أي كون مغلق لا يمكن أن يمر إلا بدورة واحدة من دورات التمدد والانكماش بسبب ضخامة الأنتروبيا المتولدة في كوننا الذي هو أبعد ما يكون عن النوسان. وسواء أكان الكون مغلقاً أم مفتوحاً، مرتداً أم متمدداً على وتيرة واحدة، فإن التحولات غير العكوسة في أطوار الكون تدل على أن للكون بداية ووسطاً ونهاية محددة». كذلك فإن نظرية النوسان لا تنسجم مع النسبية العامة. ومن هنا يخلص جون ويلر إلى أن عملية انكماش كبيرة واحدة من شأنها أن تنهي الكون إلى الأبد، فيقول: "لو حصل انهيار في الجاذبية فسنكون قد وصلنا إلى نهاية الزمن. وما من أحد قط استطاع أن يجد في معادلات النسبية العامة أدنى حجة تؤيد القول «بعملية تمدد أخرى» أو بوجود «كون ذي دورات»، أو أي شيء آخر سوى النهاية.
يبدو إذاً أن المادة ليست أزلية بالرغم من كل شيء. وكما يعلن عالم الفيزياء الفلكية جوزف سلك (Joseph Silk) فإن «بداية الزمن أمر لا مناص منه». كما يخلص الفلكي روبرت جاسترو (Robert Jastrow) إلى أم «سلسلة الحوادث التي أدت إلى ظهور الإنسان بدأت فجأة وبعنف في لحظة محددة من الزمن، وفي ومضة ضوء وطاقة.
فهل من مكان لإله في كون كهذا؟ الفيزيائي ادموند ويتيكر (Edmund Whittaker) يعتقد كذلك. فهو يقول: «ليس هناك ما يدعو إلى أن نفترض أن المادة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم وأنه حدث بينهما تفاعل فجائي. فما الذي يميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزلية؟ والأبسط أن نفترض خلقاً من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهية للكون من العدم». وينتهي الفيزيائي إدوارد ميلن (Edward Milne)، بعد تفكره في الكون المتمدد، إلى هذه النتيجة: أما العلة الأولى للكون في سباق التمدد فأمر إضافتها متروك للقارئ. ولكن الصورة التي لدينا لا تكتمل من غير الله».
أما النظرة العلمية الجديدة فترى أن الكون بمجموعة –بما في ذلك المادة والطاقة والمكان والزمان- حدث وقع في وقت واحد وكانت له بداية محددة. ولكن لابد من أن شيئاً ما كان موجوداً على الدوام، لأنه إذا لم يوجد أي شيء من قبل على الإطلاق فلا شيء يمكن أن يوجد الآن. فالعدم لا ينتج عنه إلا العدم. والكون المادي لا يمكن أن يكون ذلك الشيء الذي كان موجوداً على الدوام لأنه كان للمادة بداية. وتاريخ هذه البداية يرجع إلى ما قبل 12 إلى 20 مليار سنة. ومعنى ذلك أن أي شيء وجد دائماً هو شيء غير مادي. ويبدو أن الحقيقة غير المادية الوحيدة هي العقل (أنظر الفصل الثاني). فإذا كان العقل هو الشيء الذي وجد دائماً فلابد من أن تكون المادة من خلق عقل أزلي الوجود. وهذا يشير إلى وجود عاقل وأزلي خلق كل الأشياء. وهذا هو الذي نعنيه بعبارة «الله».
يــتــبــع