كيف تساهم كل من المدرسة والأسرة في تنشئة الأفراد وتنمية المجتمع ؟ -
امحمد عليلوش
1 - تقديم :
تعتبر المدرسة الوسيلة التي اصطنعها المجتمع بجانب الأسرة لنقل الحضارة ونشر الثقافة وتوجيه الأبناء الوجهة الاجتماعية الصحيحة كي يكتسبوا من العادات الفكرية والعاطفية والاجتماعية التي لا تساعدهم فحسب على التكيف الصحيح في المجتمع بل كذلك على التقدم بهذا المجتمع، فالمدرسة والأسرة هما إذن المؤسستان التي اصطنعها المجتمع للإشراف على العملية الاجتماعية.ولهذا فهما الوسيلتان التي من خلالهما يمرر الإنسان لأجيال المستقبل تجربته الماضية ثم مخططاته ومشروعاته المستقبلية والتي تدخل بشكل عام ضمن ما يسمى بالبرامج التربوية ، بشكل ضمني كما هو الشأن في كل أسرة ، أو بشكل مهيكل ومنظم كما في المدرسة ... لكن استقلال المؤسستين واختلاف طبيعتهما على مستوى التركيبة وكذلك الإمكانات ثم التسيير والتدبير ، جعلهما ( وفي نظر الكثير) يختلفان ولا يتعاونان بشكل مستمر لتحقيق الهدف الفعلي لكل واحدة منهما والذي هو في الأصل هدف مشترك . ولأن المجتمعات تختلف في تراثها الاجتماعي ونظمها السياسية والاقتصادية تبعا لاختلاف مناهجها الفسلفية العامة ورؤيتها للإنسان والحياة بصفة عامة، ولكل أفراد المجتمع رغبة أكيدة في الحفاظ على كيان مجتمع بما فيه من قيم وأساليب معيشة وهي القيم المستمدة من خبرتهم عن الأجيال وحياتهم الاجتماعية لذلك فهو يرى بقاءها واستمرارها من أجل بقاءه.
فالمدرسة والأسرة تعتبران المؤسستان التربويتان الأكثر أهمية بين بقية المؤسسات الأخرى، نظرا لدورهما الفعال في العمل الهادف والمنظم تبعا لأهداف المجتمع وفلسفته ككل. إذن فما هو هذا الدور ؟ وهل يمكن أن تكون هناك تربية صحيحة بدون مدارس ؟ وماهو دور الأسرة ؟ وما علاقة المدرسة بالأسرة ؟ وكيف تساهم كل من المدرسة والأسرة في تنمية المجتمع ؟ وفي التنشئة الاجتماعية للأفراد ؟
2 - مفهوم المدرسة :
يرجع أصل لفظ المدرسة école إلى الأصل اليوناني schole والذي يقصد به وقت الفراغ الذي يقضيه الناس مع زملائهم أو لتثقيف الذهن[1]. فتطور هذا اللفظ بعد ذلك ليشير إلى التكوين الذي يعطى في شكل جماعي مؤسسي ، أو إلى المكان الذي يتم فيه التعليم ، ليصبح لفظ المدرسة يفيد حاليا تلك المؤسسة الاجتماعية التي توكل إليها مهمة التربية الحسية والفكرية والأخلاقية للأطفال والمراهقين في شكل يطابق متطلبات المكان والزمان...
أما مفهوم المدرسة بالتحديد فقد ظهر اثر الانتقال الذي عرفه الفعل التربوي من مهمة تتكلف بها الأسرة إلى مهمة عمومية وذلك في المرحلة الهيلينية [2] . لتصبح المدرسة تلك المؤسسة العمومية التي يعهد إليها دور التنشئة الاجتماعية للأفراد وفق منهاج وبرنامج يحددهما المجتمع حسب فلسفته...والمدرسة بشكل عام مؤسسة عمومية أو خاصة ، تخضع لضوابط محددة ، تهدف من خلالها إلى تنظيم فاعلية العنصر البشري، بحيث تنتج وتفعل وفق إطار منظم يضبط مهام كل فئة ، ويجعلها تقوم بعملها الخاص لكي يصب في الإطار العام ويحقق الأهداف والغايات والمرامي المرغوبة منه.
فالمدرسة هي السبيل الوحيد الذي يلج إليه الأطفال منذ صغرهم ، بعد الأسرة التي تمثل المدرسة الأولى، إلى أن يلتحقوا بسوق الشغل وبالتالي فهي بمثابة معمل لتكوين الموارد البشرية ، وهي كذلك فضاء يلتقي فيه الأطفال والراشدون حيث توفر لهم فرص التفاعل فيما بينهم ، غير أنها ليست سوى مؤسسة اجتماعية من بين المؤسسات الأخرى ، وقد تدعي لنفسها الانغلاق على الذات بدعوى نظمها وقوانينها ، غير أن هذا الانغلاق ظاهري فقط لأنها تعكس مختلف التيارات الاجتماعية بكيفية شعورية أو لا شعورية ، ولكنها تعمد إلى تربية وتكوين والجيها وفق الثقافة التي تمثلها كمؤسسة مدرسية ، انها تبعا لهذا تشكل عامل توحيد ، عامل لم وجمع مختلف الطبقات الاجتماعية وصهر أفكارها وبلورتها بقدر الإمكان عبر خطابها التربوي.
3- وظائف المدرسة :
تلعب المدرسة كمؤسسة اجتماعية بجانب الأسرة ، عدة ادوار لها وزنها التاريخي ، وتتميز بوظائفها عن باقي المؤسسات الأخرى لأنها تلامس مختلف جوانب الإنسان وذلك لأنسنته وجعله ذلك الكائن الذي يعرف ذاته أولا ثم يكتشف الأخر ثانيا . وإذا ما نظرنا إلى هذه الوظائف نجدها متعددة ومتشعبة نظرا لتعدد أغراض وأهداف الكائن البشري فمنها ما هو تربوي وتعليمي ثم إداري، اجتماعي وأمني ، تكويني وإيديولوجي ، إرشادي وتوجيهي ، ثقافي إشعاعي ، تواصلي اقتصادي...وتتجلى كذلك مهمة المدرسة والأسرة في التأثير على سلوك الأفراد تأثيرا منظما يرسمه لهما المجتمع، والمدرسة من حيث هي كذلك تنصب وظيفتها الرئيسية على سلوك الناشئة، ويقاس مدى تحقيقها لوظيفتها بمدى التغيير الذي تنجح في تحقيقه في سلوك أبناءها ومن ثم كان ضروريا أن ينظر إليها نظرة شمولية كنظرتنا نحو المجتمع برمته وأن تكون في مقدمة كل سياسة إصلاحية للمجتمع وأن ينظر إليها كمرجعية لكل تغيير أو تغير قد تعرفه باقي القطاعات والجوانب الأخرى لحياة الفرد ... فالمدرسة في أساسها مؤسسة اجتماعية أنشأها المجتمع لإشراف على عملية التنشئة الاجتماعية ولذلك فإن أي تصور لهذه المؤسسة يجب أن يراجع داخل إطار هذا التصور الاجتماعي ولاشك أن هذا التصور الأساسي يملي دراسة علاقة المتعلم بغيره من المتعلمين وعلاقة المتعلم بالمدرسين وعلاقة المتعلم بالإدارة التربوية و بالتنظيم العام في المدرسة من حيث أنها الإطار الاجتماعي التي لها علاقة بما تحتويه من عناصر بشرية وما يوجد خارجها من تنظيمات اجتماعية أخرى بما فيها الأسرة. وبشكل عام يمكن القول بان المدرسة هي المؤسسة التي بفضلها يكتشف الفرد ذاته ومجتمعه ومن خلالها وعبرها يجب الخروج إليه، وهنا يمكن الإشارة إلى ابرز وظائف المدرسة على الشكل التالي :
أ ) الوظيفة التعليمية التكوينية:
في إطار هذه الوظيفة تقوم المدرسة بتعليم الأطفال القراءة والكتابة والحساب مع إكسابهم وتلقينهم المعارف الدينية والتاريخية والأدبية والعلمية واللغوية ، عبر برامج ومقررات محددة حسب مختلف المواد المخصصة لكل مستوى وبشكل تدريجي ابتداء من التعليم الأولي إلى التعليم العالي مرورا بالأساسي والإعدادي والثانوي . كما تسعى المدرسة خلال كل مرحلة تعليمية تحقيق وإكساب التلاميذ كفايات تواصلية ، استراتيجية، منهجية ، تكنولوجية وثقافية ؛ وقيم ترتبط بالعقيدة وبالهوية الحضارية وبثقافة حقوق الإنسان والمبادئ الكونية . وتهدف المدرسة بشكل عام خلال هذه الوظيفة تعليم وتكوين الفرد بشكل يجعله مندمجا في الحياة العامة ومتفتحا على الأخر .لكن من خلال التجارب السابقة والحالية يلاحظ ان المدرسة قد انحرفت عن سكتها التعليمية والتربوية نظرا لصعوبة هذه الوظيفتين وكذلك لعدم توفر الشروط الضرورية للأعداد والتكوين العلمي والمهاري والمنهجي ، ولعدم توفر شروط التأهل للاندماج في الحياة الاجتماعية . فالمدرسة اليوم وجدت نفسها في حرج وأمام منافسة شديدة ولازدياد تطور الفنون المعرفية الأخرى ، وتأثير الصورة بشكل خاص . وبذلك لم تعد المدرسة تحتل نفس المكانة السابقة (بجانب المؤسسة الدينية) التي كانت تحتلها من حيث السلطة والاحتكار المعرفي ، ولأن تطور وسائل الاتصال والإعلام وظهور الكومبيوتر و شبكة الانترنيت بمختلف برامجها وأنظمتها ، مع انتشار التعليم المبرمج والتعليم عن بعد والقنوات التعليمية ...كله هذا ما زعزع مكانة المدرسة وجعل قيمتها في تدهور مستمر ، وهذا له اثر بليغ على المتعلمين وبالتالي على المجتمع ومستقبله .فالمجتمعات التي أدركت هذا التغير الذي وقع على القنوات المعرفية وعلى المدارس ، تمكنت من مسايرة المنافسة التي تواجهها المدرسة فتربط كل جديد بالمدرسة مما جعل هذه الأخيرة لم تحس يوما ما بزعزعة وظيفتها التعليمية والتكوينية ، فتقدم البحث العلمي وتوفير التراكم العلمي الجيد يمكن المجتمعات من تحديد ملامح وحاجات ورغبات واهتمامات وميولات أطفالها ، وبالتالي انسجام كل سياسة تعليمية مع ظروف الواقع الذي يتطور بسرعة ، عكس المدرسة المغربية التي مازالت ذات طابع تقليدي سواء في طرق التدريس أو على مستوى الوسائل الديداكتيكية وحتى الجانب المعرفي والمنهجي ، مما جعلها تفقد مكانتها في حلبة الصراع التعليمي والتربوي .فواقع المدارس المغربية اليوم يؤكد هذا الطرح : فعدم تطور البنيات المدرسية بشكل يوازي ارتفاع نسبة التمدرس ، فنجم عن ذلك اكتظاظ مهول بالأقسام ( قد وصل إلى 54 تلميذ في القسم الواحد أما قسم 40 تلميذ فقد أصبح عاديا ) إضافة إلى نقص في التجهيزات وأطر التدريس ، أما ما زاد الطين بلة هي تلك الخريطة التربوية التي تحدد لكل أستاذ عدد التلاميذ الذين سيشملهم التكرار كما تحرص على أن تكون نسبة النجاح مرتفعة وأن تفوق في غالب الأحيان ما يزيد عن 90°/° (خاصة في التعليم الابتدائي الذي يعتبر الركيزة الأساسية ) وهذا ما ينتج لنا تلاميذ لا يعرفون القراءة والكتابة رغم أنهم في مستويات دراسية عالية (السادسة أو السابعة وحتى التاسعة ...) وذلك بسبب تراكم أخطاء الخريطة المدرسية . فكثرة نسبة التلاميذ في القسم الواحد وارتفاع نسبة الذين يعانون من التخلف الدراسي يشكل مشكلا وعائقا تربويا كبيرا على التواصل والتفاهم بين المدرس و التلاميذ .
ب ) الوظيفة التربوية :
بجانب الوظيفة التعليمية والتكوينية فان للمدرسة وظيفة أساسية وشاملة استمدتها من الأسرة تتجلى في تربية الأطفال تربية تجعلهم يحترمون مجتمعاتهم ويندمجون مع مختلف المؤسسات الاجتماعية الأخرى ، وبفضلها يكتسبون قيم إنسانية وهوياتية تتأقلم مع متطلبات المجتمع ، وبفضل الفلسفة التربوية التي تنهجها المدرسة كمؤسسة عمومية يمكن للمجتمع التطور والسير نحو ما هو أفضل أو العكس الإصابة بالركود والتخبط في مشاكل جمة .
فصلاح المجتمع ينطلق من صلاح المدرسة وكل خطأ يرتكب داخل جدران هذا الحقل سيكون له اثر بليغ على مستقبل الدولة برمتها ، فعلاقة المدرسة بالمجتمع علاقة الأم بابنها ، وعلاقة السائق بسيارته وعلاقة القائد بجماعته ، فالمدرسة هي مقود التطور والتقدم ومفتاح التغيير ، وعبر المدرسة يمكن كذلك ان نصنع مجتمعا متخلفا ومجتمعا مسالما كما نريد .ولهذا فعندما نتحدث عن إصلاح التعليم وبالتالي المدرسة ، علينا أن ننظر إلى مستقبل الأمة وماذا نريد فعلا من مجتمعنا ؟ هل نريده مجتمعا متقدما ؟ ديمقراطيا ؟ متفتحا ؟ يحب وطنه ؟ غيور عليه ؟ يعتز بهويته ؟ قد يدفع ثمن حياته دفاعا عن وطنه ؟ أم مجتمعا متخلفا لا يحب وطنه ؟ و لايعير أي اهتمام لنفسه و لا لوطنه ؟ مجتمعا متفاوتا في كل المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية ؟ وحتى من حيث الملكية والمواقع الجغرافية ؟
ان المدرسة هي الحل الوحيد والباب الأول الذي يمكن من خلاله ان نفبرك فردا ثم أسرة وبالتالي مجتمعا كاملا ، فداخل المدرسة نجد كل الأطفال ينحدرون من كل الأسر كسفراء لها ، وهم الذين سيصبحون رجال الغد .فإذا قمنا بتربيتهم بشكل جيد وعلى تربية مستقبلية لأنهم خلقوا لزمن غير زماننا ، نضمن مجتمعا منسجما ومتقدما . عكس ما وجدناه وما نجده داخل المدرسة المغربية، التي تتخبط في أزمات متتالية ومستمرة وبالتالي تحصد خسائر جسيمة لا يمكن للمجتمع المغربي تفاديها ولو بالقروض الدولية.فهي خسارة تربوية ترسخت في شخصية الفرد المغربي الذي يفضل الهجرة والموت في البحر عن الصمود والنضال من اجل الإصلاح التام ، شخصية الفرد المغربي الذي لا يعرف النظام بل لا يحبه ، ويفضل الفوضى أحيانا عن احترام القوانين ، الفرد المغربي الذي لا يميز بين الواجب والحق . الفرد المغربي الذي يفضل أن يتمتع بجنسية أجنبية عوض جنسيته الأصلية... إنها حقائق مرة وواقعية لا يمكن تنكرها أو جهلها ، فكل فرد وطئت قدمه المدرسة تجده يحس بمرارة الواقع المغربي وبأزمة التعليم بالخصوص .
ت ) الوظيفة الإيديولوجية :
لقد تبين لنا من خلال الممارسة الميدانية وكذلك من خلال الفلسفة التربوية التي تتبعها كل دولة اتجاه مدارسها، أن للمدرسة وظيفة أخرى تكتسي طابعا إيديولوجيا لكونها تعتبر أداة للإدماج وقنطرة تمرر من خلالها الدولة سياساتها الأمنية وهي أداة لهيمنة الوظيفة الرسمية لنقل المعارف ... وهي كما قال السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو في كتاب مع باسرون : إعادة الإنتاج la reproduction ، أداة لإعادة إنتاج الثقافة والنظام السائد ، وهي جهاز إيديولوجي مهمته نقل وترسيخ أفكاره المهيمنة وذلك لإعادة إنتاج تقسيمات المجتمع الرأسمالي وجعل النخبوية عملا مشروعا ، وبالتالي إعادة إنتاج القيم والعلاقات الاجتماعية السائدة . وهكذا فالنظام التربوي في نظر بورديو يشكل عنفا رمزيا قصدي لكنه مفروضا من طرف سلطة ذات نسق ثقافي سائد ، وهكذا فالوظيفة الإيديولوجية للمدرسة تتجلى في كونها مؤسسة للترويض الاجتماعي وإعادة إنتاج نفس أنماط الفكر والسلوك المرغوب فيهما من طرف المجتمع .
إن للمدرسة عدة وظائف رئيسية يرتبط بعضها ببعض خاصة في عصرنا الحاضر الذي يمتاز بالتغييرات الإجتماعية السريعة والتقدم المطرد في ميدان العلم والاختراع، والتشابك المتزايد في أساليب المعيشة وعادات الناس وتقاليدهم ،إلا أن المدرسة الوطنية التي تضع مهمة التربية والتعليم في مقدمة أولوياتها، تحاول التوفيق بين مختلف الوظائف دون أن تطغى وظيفة على أخرى وأن تضع مستقبل المجتمع برمته كغاية كبرى.