لقد فهم السلف الصالح أن المعول في الكفاءة المنشودة على الدين ، فضنوا بفتياتهم على الأغنياء المستهترين ، وأثاروا عليهم الفقراء المتقين ، ثقة منهم أن العاقبة للتقوى .
هذا هو سعيد بن المسيب – رحمه الله تعالى – كبير علماء التابعين ، يخطب إليه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ، إبنته إلى ولي عهده الوليد بن عبد الملك ، وكانت من أحسن النساء جمالا و كمالا ، وأعلمهن بكتاب الله وسنة رسوله ، ولكن سعيد بن المسيب لم يتردد عن الإعتذار لذلك ، وأسر عليه - رغم ما أوقعه به عبد الملك من إيذاء ، حتى ضربه مائة سوط - لما عرف به الوليد من مجون وإستهتار .
وعاد العالم الجليل إلى المدينة ، فزاره عبد الله بن أبي وداعة أحد تلامذته ، فسأله عن حاله ، وعلم منه بوفاة زوجه .
فقال له : " هلا إستحدثت إمرأة ؟ "
فقال : يرحمك الله تعالى ، ومن يزوجني ، وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة ؟ .
فقال له سعيد : أنا أزوجك . قال : وتفعل ؟ .
قال : نعم . فزوجه إبنته على درهمين او ثلاثة ؟ .
وهكذا أثرسعيد بن المسيب – رحمه الله تعالى – الفقير التقي ، التي توفرت له الكفاءة في الدين ، على الأمير الغني الذي يفتقر إليها ، ولم يكتف بذلك ، بل بلغ به الإطمئنان والثقة في دين ذلك الفقير ، ما يحدثنا عنه ويقول :
" فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح ، فصرت إلى منزلي وجعلت أفكر ممن أخذ ، وممن أستدين ؟ فصليت المغرب ، وإنصرفت إلى منزلي ، فأسجرت ، وكنت صائما ، فقدمت عشائي لأفطر ، وكان خبزا وزيتا ، وإذا بابي يقرع .
فقال : من هذا ؟.
فقال : سعيد . ففكرت في كل إنسان إسمه سعيد ، إلا سعيد بن المسيب ، وذلك أنه لم ير أربعين سنة إلا بين داره والمسجد ، فخرجت إليه ، فإذا به سعيد بن المسيب ، فظننت إنه قد بدا له ، فقلت : يا أبا محمد ، لو أرسلت إلي لأتيتك .
فقال : لا، أنت أحق أن تؤتى .
قلت : فما تأمر ؟.
قال : إنك كنت رجلا عزبا فتزوجت ، فكرهت أن أبيتك الليلة وحدك ، وهذه إمرأتك . وإذا هي قائمة خلفه في طوله ، ثم أخذ بيدها ، فدفعها في الباب ورده.
فسقطت المرأة من الحياء ، فاستوثقت من الباب ، ثم تقدمت إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت ، فوضعتها في ظل السراج كي لا تراه ، ثم صعدت السطح فرميت الجيران ، فجاؤني .
وقالوا : ما شأنك ؟ .
قلت : ويحكم ، زوجني سعيد بن المسيب إبنته اليوم ، وقد جاء بها الليلة على غفلة .
فقالوا : او سعيد زوجك ؟ قلت : نعم ، قالوا : وهي في الدار؟.
قلت : نعم ، فنزلوا إليها ، وبلغ ذلك أمي ، فجاءت وقالت : وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها على ثلاثة أيام ، فأقامت ثلاثا ، ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل النساء ، وأحفظ لكتاب الله تعالى ، وأعلم بسنة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم - ، وأعرفهم بحق الزوج . فمكث شهرا لا يأتيني سعيد ، ولا أتيه ، فلما كان بعد الشهر أتيته وهو في حلقته ، فسلمت عليه ، فرد علي السلام ، ولم يكلمني حتى تفرق الناس من المجلس .
فقال : ما حال ذلك الإنسان ؟.
فقلت : بخير يا أبا محمد ، على ما يحب الصديق ، ويكره العدو .
فقال : إن رابك منه أمر فدونك والعصا. فانصرقت إلى منزلي ، فوجه إلي بعشرين ألف درهم .
فما أعظم إطمئنان ذلك التابعي الجليل إلى مصير إبنته ، حتى إنه لم يفكر في إستقصاء أحوالها ، لإطمئنانه إلى أنها في كنف رجل تقي ، يخشى الله تعالى ، ويعرف حقها عليه ، ومكانتها منه .