لا يا محمد درويش لم يمت ..فهو ذهب جسدا وسيعيش أبدا ..انه فنان مبدع هزم الموت بفنه وانتصر عليه مرتين..اقرأ....معي:
وانتصرَ الشاعرُ مرتين
يبدو أنّ الموتَ، بهَمجيّتِه، لم يفهم الشاعرَ بشاعريتِه حين انتصرَ على الموت قبل عشر سنين:
(هزمَتكَ يا موتُ الفنونُ جميعها،
هزمتكَ يا موتُ الأغاني في بلادِ
الرافدين. مِسلّةُ المصريّ، مقبرةُ الفراعنةِ،
النقوشُ على حجارة معبدٍ هزَمَتكَ
وانتصرَتْ، وأفلتَ من كمائنكَ
الخلودُ..
فاصنع بنا واصنع بنفسكَ ما تريدُ.. )
فما عناهُ الشاعرُ هو خلود النوع لا خلود الفرد.. خلود اللغة والمجاز حين يُعيد انتاج المعنى باستمرار.. خلود الثقافة والحضارة لا خلود الإنسان الفرد.
إلّا أنّ الموتَ، بحَرفيّتِه، فهمَ العكسَ، فترَبّصّ بالشاعرِ، كالشحاذ، يطلب روحَه مرةً ثانية:
(ولستَ مُحتاجاً – لتقتُلني – إلى مرضي،
فكُن أسمى من الحشرات. كُن مَنْ
أنتَ، شفّافاً بريداً واضحاً للغيب.
كُن كالحبِّ عاصفةً على شجر، ولا
تجلس على العتباتِ كالشحّاذ أو جابي
الضرائب. لا تكُن شُرطيَّ سيرٍ في
الشوارع. كُن قويّاً، ناصعَ الفولاذ، واخلَع عنكَ أقنعةَ
الثعالب… )
لم يفهم الموتُ، بهمجيتِه، شرط التحدي الشاعري: الوضوح الشريف:
(ويا موتُ انتظرْ، يا موتُ،
حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهني في الربيع
وصحّتي، لتكون صيّاداً شريفاً لا
يصيدُ الظّبيَ قربَ النبع.. )
إلّا أنّ الموتَ، بخساستِه، أراد أن ينتقمَ لهزيمته الأولى بأي ثمن، فانتهز فرصةَ مرضِ الشاعرِ لينقضّ على القلبِ المُثقلِ بحبِّ الحياة:
(ونحنُ نُحبُّ الحياةَ إذا ما استطَعنا إليها سبيلا
ونرقصُ بينَ شهيدَين. نرفعُ مِئذنةً للبنفسجِ بينهُما أو نخيلا)
لا شك أنّ الدرسَ الأولَ الذي لقّنهُ الشاعرُ للموتِ كان قاسياً.. كان أقسى من هجاءِ الشعراءِ للأمراء:
(.. كأنّكَ المنفيَُ بين
الكائنات. ووحدكَ المنفيّ. لا تحيا
حياتَك. ما حياتُكَ غير موتي. لا
تعيش ولا تموت. وتخطف الأطفالَ
من عَطَش الحليب الى الحليب..
.. وحدُكَ المنفيّ، يا ملكَ
الملوك، ولا مديحَ لصولجانِكَ، لا
صقورَ على حصانك. لا لآلئَ حولَ
تاجِك، أيها العاري من الرايات
والبوقِ المُقدّس، كيف تمشي هكذا
من دون حرّاسٍ وجوقةِ مُنشدين،
كمِشيةِ اللصِّ الجبان.. )
فاستغلّ الموتُ، بخساستِه، ضعفَ القلب، فاستلّ الحياةَ من الجسدِ المُسجّى على سرير:
(وتنحلُّ العناصرُ والمشاعرُ، لا
أرى جسدي هناكَ، ولا أحسُّ
بعنفوان الموت، أو بحياتيَ الأولى،
كأنّي لستُ مني. مَن أنا؟ أأنا
الفقيدُ أم الوليدُ…
الوقتُ صفرٌ، لم أفكّر بالولادة
حينَ طارَ الموتُ بي نحو السديم،
فلم أكن حيّاً ولا ميّتاً،
ولا عدمٌ هناكَ، ولا وجودُ.. )
وخسرَ الموتُ مرةً أخرى، وانتصر الشاعر مرتين:
(لا أريدُ الرجوعَ إلى أحد
لا أريدُ الرجوعَ إلى بلد
بعد هذا الغيابِ الطويل…
أريدُ الرجوعَ فقط
إلى لُغتي في أقاصي الهديل…
.. تَعلّمتُ البقاءَ من
الفناءِ وضدَّه: أنا حبّةُ القمح
التي ماتت لكي تخّضرَّ ثانيةً، وفي
موتي حياةٌ ما… )
هكذا إذاً يا موت؟! لقد أصبحت اللعبةُ الآن مكشوفةً بعد أن غدرتَ بشاعرنا، فخذ منّا كما عوّدناك دوماً: موتاً يُزيدنا حياة.
كَم غَدَرتَ بنا يا موت؟! ستونَ عاماً وأنتَ تغدُر. كَم تمنَيّناكَ فارساً نبيلا، لنحظى بشرفِ النزال.
سنموتُ دوماً لنحيا أبداً، ونُلَقّنكَ سرّ الخلودِ.
هل ماتَ الشاعرُ؟ المُتنبي ما زالَ على قيد الحياة.. ومحمودُ سيبقى..
فاصنع بنا واصنع بنفسكَ ما تريدُ.منقول للفائدة