إن أزمة النحو العربى قضية قديمة جديدة ، لا نَمَلُّ من الحديث عنها ؛ لإيماننا العميق بدور اللغة فى بناء الشخصية الإنسانية ، وتحديد هويتها ، وترسيخ الانتماء ـ الذى هو أول بذرة فى نمو وتقدم أى مجتمع ـ والانتماء المقصود هو الانتماء إلى الثوابت التى تحدد هوية الفرد والمجتمع من دين ووطن وثقافة وفكر . ولكن ما نأسى له أشدَّ الأسى هو غفلة أبناء الأمة العربية عن هذه الحقيقة التى أدركتها كل الأمم المتحضرة التى لديها الاستعداد التام لبذل النفس والنفيس فى سبيل أن ترتقى لغتُهم مرتقًى يُعْلى من شأن أبنائها ومجتمعاتها . والأمثلة على ذلك كثيرة يكفى أن نشير إلى تجربة اليهود فى إحياء لغتهم من موات إيمانًا منهم بأن إحياءها إحياءٌ لهم كشعب . والتجربة الفرنسية التى حرَّم وجرَّم الفرنسيون فيها استعمال أى لغة أجنبية على لافتات المحلات والمراكز التجارية ، وأخيرًا ما أصدرته المستشارة الألمانية من قرار يرحل بمقتضاه كلُّ من يستعمل غير اللغة الألمانية من الأجانب المقيمين بألمانيا . وفى المقابل نذكر الدور الخبيث الذى كانت تلعبه الدولُ المستعمِرة تجاه الدول المستعمَرة من سعى دءوب نحو إقصائها عن لغتها وإحلال لغة المستعمر محلها ، أو قل : نحو إقصائها عن شخصيتها المتميزة ، لتذوب فى لغة وثقافة وفكر الآخر ، فتموت بداخلهم نخوة المقاومة للمحتل ، وحمية الانتماء للوطن والدين والأهل ، هذا فضلاً عن ضياع الذات الثقافية التى تميز كل أمة . والأمثلة أيضًا على ذلك كثيرة منها محاولات الأتراك لإحلال لغتهم وإقصاء اللغة العربية فى قلب الوطن العربى ، كذلك محاولات إنجلترا فى مصر ، وفرنسا فى الجزائر وبلاد جنوب أفريقيا ، وإيطاليا فى ليبيا وغيرها . لهذا صار من الفروض فى هذا العصر الذى تتزاحم فيه الثقافات وتختلط فيه المعارف والمعلومات أن نتمسك بلغتنا وأن نستظل بظلها حتى تكون رسولنا بين الأمم تحمل ثقافتنا إلى الآخر ، وترسخ انتماءنا إلى ذواتنا . والنحو العربىُّ أداة أساسية للتمكن من اللغة العربية ؛ إذ هو نظام اللغة الذى به يستطيع العربىّ ُأن يتكلم بشكل سليم يصله بتراثه ويدعم هويته الثقافية ، ويكتب بشكل صحيح يرفع عنه معرَّة الخطأ فى لغته ، ويفهم بشكل عميق يجعله يدرك الدلالات العميقة (مابين السطور) ، وهو مستوى فى الفهم يتجاوز مستوى الفهم السطحى . ولكن مع كل أسف أصيب النحو العربى فى هذا العصر بأوجاع أقعدته عن القيام بمهام وظيفته ، فصار مشلولاً بقيود الصعوبة وعدم الجدوى من جهة والجمود وعدم أدائه لوظيفته من جهة أخرى . ونرى أن هذه القيود التى أحاطت بجسد النحو ثم صارت اتهامات ألصقت به إلصاقًا من قِبل بنى جلدته ، أولاً ثم من قِبَل أعدائه ثانيًا ، يحمل إصرها المعلمون و يتضح ذلك من خلال الأوجاع التالية : 1) عدم وضوح الغاية : لما يزل الكثير من معلمى النحو والمتخصصين فيه ـ وللأسف الشديد ـ لا يعرفون الغاية التى يدرِّسون النحو من أجلها ، فهى ليست كما يظن الكثيرون منهم إعراب الكلمات دون إدراك لدور الإعراب فى الفهم أو الإفهام سواء بالكتابة أو الكلام . وهم لغياب هذا الوعى ، ولعدم وضوح الغاية أمام أعينهم صاروا يضعون مواد علمية فى كتب النحو الجامعى لا تفيد اللغة فى شىء ، فهم يجعلون من كتبهم فى النحو حَلْبَةً يستظهرون فيها قوتهم فى حشد القواعد والآراء والخلافات التى تبدو فيها بعض الآراء مجافيةً كل الجفاء للسليقة اللغوية السليمة وكأنهم يصرون أن يشعروا المتعلم بأن تعلم النحو يبعده عن سليقته اللغوية حتى وإن كانت سليمة . فعلى سبيل المثال يورد بعض المتخصصين فى اللغة حديثًا عن تأنيث الفعل مع جمع المذكر السالم ومع جمع المؤنث السالم ، ويوردون خلافًا ثلاثىَّ الاتجاهات فيذكرون اتجاهًا يوجب التذكير مع جمع المذكر السالم والتأنيث مع جمع المؤنث السالم ، فنقول : حضر المعلمون وحضرت المعلمات . وهذا ما يتفق مع السليقة اللغوية السليمة الاتجاه الثانى : يجوز التأنيث مع جمع المذكر السالم فيجوز أن تقول : حضرت المعلمون على تقدير جماعة . الاتجاه الثالث : يجوز التأنيث مع جمع المذكر السالم والتذكير مع جمع المؤنث السالم فيجوز أن نقول : حضرت المعلمون وحضر المعلمات ، ويقدرون الأولى بجماعة والثانية بجمع . ويبدو ما فى الاتجاهين الثانى والثالث ـ مع جوازهما ـ من مجافاةٍ لفطرة طلاب النحو ، وغوص بهم فى تلافيف التقديرات والتأويلات التى تحاول لىَّ أعناق فطرتهم السليمة . ثم نطالبهم بعد ذلك بإتقان اللغة كلامًا وكتابة فهمًا ، كيف ونحن نزاحم الكلام الصحيح الفصيح بزخَمٍ من الآراء ـ التى قد تكون صحيحة وهى كذلك بالفعل ـ ولكنها لا تناسب لغتهم وتجافى طبعهم وتجعلهم مثارًا للسخرية والاستهزاء . فعلى المعلمين الفضلاء أن يدركوا ماذا يريدون من تدريس النحو . إن كانوا يريدون جعل النحو مطيَّةً يبرزون بها ثقافتهم الواسعة بكل صغيرة وكبيرة فى النحو العربى ، ومسرحًا يستعرضون عليه إمكاناتهم فى رصد الآراء والخلافات والتفصيلات الدقيقة ، إن كانوا يريدون ذلك فقد يتحقق لهم ولكن على حساب ارتباط الطالب بالنحو كعلم يعرف به كيف يكون الكلام . قد يتعلم الطالب الآراء المختلفة فى المسألة النحوية والآراء والخلافات ولكنه لن يستطيع أن يقيم جملة صحيحة عند الأداء اللغوى التطبيقى . أما إن كانوا يريدون أن يستخدم الطالب اللغة بشكل سليم وجميل قراءةً وكلامًا وكتابةً وفهمًا ، فعليهم بالمقاربة بين التوجيهات النحوية والأداء الفعلى للغة الطالب ، وذلك بتأكيد صحة ما ينطقه ـ إن كان صحيحًا بالطبع ـ دون تشويشه بآراء وتوجيهات أخرى قد تكون صحيحة ولكنها غير مألوفة فى الاستعمال . ولنعلم جميعًا أن تحديد المعلمين للغاية التى يريدونها من تدريس النحو ، أو قل تحديد نواياهم وهم يدرسون النحو ، هو الذى سيشكل طبيعة المادة المعروضة فى كتب النحو ، الملقاة على أسماع الطلاب . 2) خطأ الوسيلة : اعتاد كثير من المتخصصين والمعلمين للغة العربية أن يعلموا النحو للطلاب من خلال القواعد النحوية ، فهم يعرضون القاعدة ويشرحون جزئياتها وتفاصيلها بدقة شديدة ، ثم يستعينون على إيضاح القاعدة بمجموعة من الأمثلة التى لا تخلو من صنعة وتكلف ، فهى من قبيل : ضرب زيدٌ عمرًا ، وما أضرب زيدًا لعمرو ، وزيد منطلق وعمرو مهذب ... وهكذا وهى أمثلة كما نرى محدودة ومتكلفة ومصنوعة ، وليس هذا بغريب فالمثال أو النص هو وسيلة ـ وليست غاية ـ لتثبيت القاعدة عند أصحاب هذا الاتجاه ومن ثم لا يراعى اختيارها أو الاهتمام بها . والحقيقة أن هذه الطريقة طريقةٌ لا يرجى من ورائها خير أو نفع لدارس العربية فضلاً عن غيره ؛ لأنها تقلب الغاية من دراسة النحو ، فتصير قواعد النحو غايةً يُسْعَى إليها فى ذاتها ، فى حين تنـزوى الغاية الحقيقية لدراسة النحو ، ألا وهى معايشة اللغة قراءة وكتابة وفهمًا ؛ وهذا لن يتأتى إلا إذا عُرِضت قواعد النحو من خلال اللغة ونصوصها الأدبية المنتقاة عَبْر عصور العربية المتعاقبة ، حيث يكون العرض بيانًا لدور هذه القواعد فى تحقيق المعنى الأساسى للكلام ومن بعده المعنى العميق للكلام ـ مابين السطور ـ ومن ثم يتجلى دور المعطيات النحوية فى الكشف عن جماليات الأسلوب اللغوى ، فيسعى المتعلم بعد ذلك إلى محاكاة هذه الأساليب الراقية التى تلقاها باستحسان واستمتاع يحفزانه على هذه المحاكاة التى تتضمن الحفاظ على القواعد ، وبذلك يكون المتعلم قد استحضر قواعد النحو من خلال النصوص الأدبية الممتعة وليس العكس ، وليكن شعارنا فى هذا الصدد هو : (النفاذ إلى القواعد من خلال النصوص وليس النفاذ إلى النصوص من خلال القواعد ) . 3) غياب قيمة القراءة : إن كان الوجهان أو الوجعان السابقان يحمل إثمهما المعلمون أو المتخصصون فى النحو والعربية بوجه عام ، فإن هذا الوجه أو الوجع يتعلق بالمتعلم ، حيث إن دارس العربية يظن أن رحلته فى تعلم النحو تنتهى عند حدود تلقيه للمعطيات النحوية ، والأمر ليس كذلك مطلقًا ، فالنحو هو علم اللغة العربية الذى به يتمكن المتعلم من لغته نطقًا وكتابةً وفهمًا ، ومن ثم لابد وأن يرى هذه الهياكل النحوية وهى مكسوة باللحم والدم ، وهذا اللحم والدم يتمثل فى اللغة التى تُحصَّل بالقراءة الواسعة الشاملة فى شتى المجالات . وإن كانت مادة المهندس المعمارى هى الحجارة والطوب والحديد المسلح ، ومن ثم فهى تسترعى انتباهه فى أى موقع ، فإن المتخصص فى اللغة ـ دراسًـا أو معلمًا ـ مادته الرئيسة إنما هى الكلمة ومن ثم لابد أن تسترعى انتباهه الكلمة مقروءة أو مسموعة ؛ حتى يتمكن من إدراك الجميل من القبيح ، والصحيح من الخطأ فيطرح الخطأ والقبيح ويحاكى الصحيح والجميل ، ولكن هذا وبكل أسف لا يحدث عند الكثير من المتعلمين . إن تقاعس متعلمى العربية عن الإقبال على القراءة ، أوجد فجوةً واسعة وهوةً سحيقة بينهم وبين اللغة ، ومن ثم احتدت العزلة بين طلبة العلم بوجه عام وبين النحو الذى لا يتجسد إلا من خلال اللغة وبخاصة المقروءة منها . وبذلك تداعت هذه الأوجاع على النحو العربى حتى أحالته إلى جسد معزول ، يخشى أهله الاقتراب منه ، وما من ذنب للنحو سوى أنه وقع ضحية بين مطرقة المعلمين وسندان المتعلمين .
نُشِر هذا المقال بجريدة اللواء الإسلامي المصرية بتاريخ الخميس 14/2/2008 .
سفير اللغة و الأدب عضو ممتاز
عدد الرسائل : 1085 العمر : 60 نقاط : 6221 تاريخ التسجيل : 29/07/2008
موضوع: رد: أوجاع فى جسد النحو العربى/(بين مطرقة المعلمين وسندان المتعلمين) الجمعة 22 أغسطس 2008 - 11:20
[color=red]ارجو من السادة المشرفين و المشاهدين مناقشة هذا المقال و التعليق عليه للتوسع فيه أكثر و شكرا مسبقا [/color]
أوجاع فى جسد النحو العربى/(بين مطرقة المعلمين وسندان المتعلمين)