الخطاب الإشهاري والقيمة الحجاجية
توطئة
تندرج هذه الدراسة في سياق الكشف عن خصائص البنية الحجاجية للخطاب الإشهاري من منظور ثلة من الدارسين الذين عنوا بتوصيف الحجاج والإشهار بوصفهما عمليتين لسانيتين وعقليتين تعتمدان مبدأ استمالة الآخر ، وترويض مشاعره وفكره تمهيدا لتعديل سلوكه ومواقفه العامة من الأشياء المادية والفكرية المشكلة لرؤية العالم عنده ،مع تبيان أنواع الحجج ،وكيفية بنائها وترتيبها في الخطاب الإشهاري تحقيقا للترابط النصي ،وتفسير بنياتها؛ كما تهدف هذه الدراسة إلى إبراز الفروق بين الحجاج السليم والمغالط في العملية الإشهارية في ضوء مقاربات تطبيقية لبعض الخطابات المتداولة، وتقوم هذه الدراسة على محورين أساسين أولهما يمهد بالتعريف والتحديد الاصطلاحي للحجاج بوصفه عملية و استراتيجية خطابية متميزة من ناحية ، وبكونه نصا منتجا لمقاصد معينة في ظروف مقامية محددة، أما المحور الثاني فيمعن خصوصيات الخطاب الإشهاري ، ومكوناته اللسانية والأيقونية ، والأغراض الأساسية التي يحققها المشهر باختياره تقنيات ومبادئ إشهارية معينة تستهدف الزبون ( السلعة المادية والمعنوية) فتثير عواطفه ،و تستهوي فكره للإقبال على اقتناء المعروض برغبة متعالية ، وفي هذا السياق يمكن تحديد كفاءة الخطاب الإشهاري وقوته الإنجازية من حيث هو فعل كلامي كلي مقامي.
وبالرغم من تعدد الدراسات اللسانية و السيميائية الغربية بالفرنسية والإنجليزية المقاربة للنص الإشهاري إلا أن مثيلاتها في الدرس اللساني العربي الحديث قليلة ، بخاصة تلك المتعلقة بالجانب اللساني والتداولي لموضوع الحجاج وأنواع الخطابات كالإشهار مثلا ، مع توزعها على اهتمامات مختلفة فبعضها مرتبط باللسانيات وبعضها أدخل في قضايا السيمياء والنقد الأدبي وأخرى متصلة بالجوانب الإعلامية ونظريات الإتصال الجماهيري ،وهذا يدل على حداثة هذا النوع من الدراسة في فكرنا العربي المعاصر لظروف معرفية ومنهجية مختلفة أطرتها اللحظة الثقافية العربية والمشهد الحضاري الراهن ، ولهذه الأهمية تنزلت دراستنا هذه في سياق الوصف والاستقصاء باحثة في عالم النصوص العربية المنجزة عن إمكان الاستفادة من المنجز اللساني الغربي الحديث بمناهجه التداولية والنصية والسيميائية في تمعين الخطاب الثقافي العربي قديمه وحديثه، في لحظة البدء مع الدعوة إلى ضرورة ادراج مبحث الخطاب الإشهاري في صلب الهموم النصية العربية النظرية والتطبيقية بخاصة الخطاب العلمي البيداغوجي على اعتبار حاجتنا إلى تعليم التصوص الأصيلة والتي يشكل الإشهار أحد نماذجها الرئيسة ÷ذا من ناحية ومن ناحية أخرى سد الفجوة النقدية في مدارسة هذا النوع من النصوص الإبداعية في إطار مدونة النقد العربي بالرغم من أن المنجز النصي التراثي يعج بالنصوص الإشهارية التي واكبت النشاط التجاري الذي عرفته الحياة العربية وظاهرة الأسواق وتجارة الرقيق إطار موضوعي لذلك.
أ-تحديدات اصطلاحية
تتعدد المصطلحات وتتشعب في إطار وصف الخطاب الحجاجي التداولي، فتطفو على السطح مفردات مثل الحجاج والحجة والدليل و البرهان ، بالرغم من تضايفها السياقي إلا أنها مختلفة في التداول الاختصاصي عند بعض اللسانيين ، وستحاول هذه الدراسة أن تذلل بعض الصعوبات الاصطلاحية في سبيل الكشف في المنتهى عن خصائص الحجاج والإقناع بنية ومضمونا .
1-الإقناع (persuation)
يعني الإقناع العملية الكلامية التي تستهدف التأثير العقلي والعاطفي في المتلقي أو الجمهور،قصد تفاعله إيجابيا مع الفكرة أو السلعة المعروضة عليه باعتماد الحجج والبراهين الإثباتية عبر وسائط طبيعية أو صناعية ، أما الاقتناع فهو فعل الأثر الناجم عن عملية الإقناع لدى المتلقي متى توافرت الظروف ،وتهيأت من لدن المرسل ( المقنع ) فيحدث الانسجام بين الرغبة الذاتية والإمكانات المتاحة والهدف المطلوب ، ويمكن القول بأن الإقناع جهد اتصالي لساني بالدرجة الأولى مؤسس على قصد ، ومخطط له سلفا وفق أهداف معينة لاستمالة المتلقي وتعديل سلوكه ومواقفه الشخصية في ظروف مقامية معينة ، وما يجب التنبه إليه في هذا المقام أن النص الإقناعي القائم على الحجج قد تختلف مقاصده بناء على الاستراتيجية الموضوعة فقد يبنى على الإغراء ، فتكون المتعة الشخصية غايته ، وقد يتجه وجهة إقناعية عقلية بحتة تضطلع الحجج المنطقية وأساليب الاستدلال بمهمة توجيه فكر المتلقي.
الكفاءة الإقناعية(la cempetance persuative)
لما كان الإقناع جهد لغويا مقصودا ومؤسسا على استراتيجية معينة للتأثير في رغبات الآخر وميوله فإنه لا يتحقق فعلا إنجازيا موفقا إلا إذا كان المقنع ممتلكا لكفاءة تواصلية و إقناعية متميزة يكون نتاجها كسب تأييد الآخرين لرأيه وما يعرضه عليهم ، وتتميز هذه الكفاءة بالمهارات التالية :
1-مهارة التحليل والابتكار.
2-مهارة التعبير والعرض المنظم للأفكار.
3- مهارة الضبط الانفعالي.
4-مهارة فهم دوافع نقد الآخر.
نجاعة العملية الإقناعية
حتى تحقق العملية الإقناعية نجاحها لابد من توافر جملة من القواعد الضابطة أثناء ممارسة الفعل الإقناعي ذاته ناهيك عن الصفات الشخصية المساعدة للمرسل الذي يمارس بشخصيته نوعا من التأثير السلطوي أو الإغوائي في كثير من المناسبات الإشهارية التي تستدعي صورة المرأة في وضعيات مختلفة ، وربما تمكنا من إجمال هذه القيود في العناصر التالية :
1-خلو الرسالة الإقناعية من المغالطات الوصفية .
2-بناء الحجج على سلمية متدرجة ، تراعي سياق التخاطب.
3-إحالة الرسالة الإقناعية على مرجع ثقافي سائد ومشترك ( عدم التعارض مع القيم والعادات والمعتقدات السائدة )
4-وضوح الأهداف ، وإمكان الوصول إليها .
5- الجمع بين الرأي والرأي المضاد .
6-تنويع عرض المرسلة الإقناعية مع مراعاة التباعد الزمني في عملية العرض.
العملية الإقناعية والعامل النفسي
لنجاع العملية الإقناعية على موجه الرسالة أن يمهد لها الطريق لدى المتلقي بإيجاد جو نفسي ملائم ، وهو ما يعرف بالتهيئة النفسية ، من مثل مايماسه المؤذن لتهيئة المصلين للفعل العبادة ، ومراقبة هلال رمضان ،والتطيب والتزين في العيد ، فكلها أفعال إشهارية وإقناعية تهدف إلى استمالة الفرد وإعداده لاستقبال موضوع ذي قيمة في الحياة الاجتماعية أو السياسية أو الدينيةأو التجارية ، وقد تمارس وسائل الإعلام لفترة زمنية محددة سلفا هذه المهمة لصالح برامج سياسية قومية أو حزبية لتخلق ما يعرف بالرأي العام تجاه مسألة مصيرية بسرد أحداث جانبية كارتفاع أسعار النفط عالميا ، واندلاع حروب هنا وهناك ،فيتهيئ الرأي العام المحلي لقبول زيادات في الأسعار.
ب-الحجاج(Argumentation)
تشير موسوعة لالاند الفلسفية إلى أن الحجاج سلسلة من الحجج تنتهي بشكل كلي إلى تأكيد نفس النتيجة ،وربما نص هنا على كونه طريقة تنظيمية في عرض الحجج ،وبنائها وتوجيهها نحو قصد معين يكون عادة الإقناع والتأثير ، فتكون الحجة في سياق هذا العرض بمثابة الدليل على الصحة أو على الدحض ، وأما مصطلح البرهنة والبرهان فيشيان باستنباط دليلي يوجه لتأكيد نتيجة سالفة باعتماد مقدمات صادقة ، وهكذا سنسمي حجاجا تلك الطريقة أو ذلك الأسلوب الذي يسلكه الخطاب لإضفاء سمة التماسك القضوي والشكلي والدلالي على ما ينسج من تراكيب تمنح الخطاب بعدا إقناعيا في التواصل اللغوي ، ويذهب شارل بريلمان(Ch.Prelman)إلى أن الحجاج سمة تصف كل الخطابات ، غايتها الاستمالة والإقناع ضمن العلاقة بين الأنساق الصريحة والضمنية، وهذا بالضبط ما قرره دي كرو من وجود مؤشر حجاجي في كل معنى حرفي جملي يستدعي مضمر السياق للإيحاء بنتيجة ما مقنعة أو غير مقنعة ،وتطلق لفظة حجاج و محاججة عند بريلمان وتيتيكاه على العلم وموضوعه، ومؤداها درس تقنيات الخطاب التي تؤدي بالذهن إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات ،أو أن تزيد في درجة التسليم وربما كانت وظيفته محاولة جعل العقل يذعن لما يطرح عليه من أفكار ،أو يزيد في درجة ذلك الإذعان إلى درجة تبعث على العمل المطلوب، على أن الحجاج مثلما أنه ليس موضوعيا محضا فإنه ليس ذاتيا محضا؛ ذلك أن من مقوماته حرية الاختيار على أساس عقلي ، وعلى صعيد آخر يمكن القول بأن الحجاج في ارتباطه بالمتلقي يؤدي إلى حصول عمل ما أو الإعداد له، ومن ثم سيكون فحص الخطابات الحجاحية المختلفة بحثا في صميم الأفعال الكـلامية وأغـراضها السياقيـة ،وعلافة الترابط بين الأقوال والتي تنتمي إلى البنية اللغوية الحجاجية ، و سيكون الحجاج مؤطرا بالخاصية اللسانية الشكلية ،وليس بالمحتوى الخبري للقول الذي يربط القول بالمقام ،ولما كان الأمر كذلك فإن تركيز التداولية ينصب على العلاقات الترابطية بين أجزاء الخطاب والأدوات اللسانية المحققة له، ومن خصائص الخطاب الحجاجي الذي يميزه عن البرهان أو الاستنتاج إمكان النقض أو الدحض مما يجعل من إمكانية التسليم بالمقدمة المعطاة أمـرا نسبيـا بالنسبـة إلى المخاطب. وتتصدر المحاججة بوصفها وظيفة لسانية قائمة الوظائف اللغوية بالرغم من عدم إشارة الدارسين الذين تناولوا موضوع وظيفة اللغة إليها مثل:بوهلر و جاكبسون و مارتنيه و براون و ييول و هاليدي و فان ديك وغيرهم..إلخ.
إن القول اللغوي ينجز في ظروف معينة قصد التأثير في المتلقي مستعملا وسائل لغوية موجهة للخطاب نحو غاية معينة ، وبالتالي سيكزن من الوجيه أن يميز بين الحجاج( argumentation)،والبرهان (demonstration) فالحجاج ليس خطابا برهانيا منطقيا وعقليا بالأساس -كما يتصور البعض- يقتضي البرهنة على صدق قضية ما مثلما هو الأمر في الاستدلال المنطقي (syllogisme)وإنما هو خطاب لغوي طبيعي عادي احتمالي في نتيجته التي يتوصل إلى معناها بالتأمل في البنية اللغوية ،ووسائل الربط المقيدة للحجج والمنسقة بينها ،إن ما يفرق بينهما كونه (الحجاج ) مؤسسا على بنية قولية لغوية متسلسلة داخل نص ما لاعلى مقتضى الأقوال المنطقية التي ينشغل بها النص الفلسفي الاستدلالي .
القيمة الحجاجية
تتنزل نظرية الحجاج ضمن نظرية أشمل سطر قواعدها كل من أوستن وسيريل في انظرية الأفعال اللغوية ، فما الفعل الحجاجي إلا نوع من الأفعال الإنجازية التي يحققها الفعل التلفظي في بعده الغرضي ، كما أضيف إليه مفهوم القيمة الحجاجية التي تعني نوعا من الإلزام في الطريقة التي يجب سلوكها لضمان استمرارية ونمو الخطاب حتى يحقق في النهاية غايته التأثيرية ، وتشير من ناحية ثانية إلى السلطة المعنوية للفعل القولي ضمن سلسلة الأفعال المنجزة لتبليغ فكرة ما إلى المتلقي .
الحجاج الخاطئ
يبنى هذا النوع على المغالطة في تقديم الحجة، ويعبر عنه باللغة الفرنسية بمصطلح (paralogisme) المتكون من جزئين هما para ونعني به خاطئ و logisme بمعنى الحجة ، وربما أضاف بعضهم صفة النية الحسنة لهذا النوع؛ ليتميز في التفكير الفلسفي عن مصطلح sophisme . إن الحجاج الخاطئ يقدم على المقايسة الواهمة ،كما تسبب في حدوثه عيوب بنويه أثناء تأسيس المحاججة كالمصادرة على المطلوب ،أو الأخطاء الناجمة عن تعدد الأسئلة ،ففي كثير من الأحيان يصدر الخطاب عن تمويه في صورة مقدمات وهمية كاذبة،إما شبيهة بالحقيقة لكنها غير ذلك ،أو شبيهة بالمشهور دون أن تكون كذلك أيضا ، مثل : كل ميت يجب دفنه/الحجر ميت /النتيجة الحجر يجب دفنه ؛ وربما أمكننا التمثيل للمغالطة الحجاجية بقولنا: إن إسرائيل دولة نووية وقوة عسكرية فهي إذن على حق ،إذ يشمل هذا النوع من المغالطة الحجاج بالسلطة،ومن أنواع الحجاج الخاطئ أيضا المغالطة المنطقية ؛ ونزعم التمثيل لها بمناظرة الشاعر العباسي "أبي العتاهية " لثمامة بن الأشرس ، والمغالطة العلمية التي تشخص في تناقض أقوال المتكلم وأفعاله، وربما مثلنا لها في النص القرآني بقوله تعالى: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم (البقرة/44)، وأما الحجاج المبني على التناقض الإثباتي فتبينه الآية من سورة مريم: إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (مريم /19) فقد ذهب بعض المفسرين إلى أنها لم تنذر في الحال بل صبرت حتى أتاها القوم فذكرت لهم كونها نذرت، فيكون هذا منها تناقضا فقد تكلمت من حيث نذرت عدم الكلام، بينما ذهب آخرون إلى إمساكها و اكتفائها بالإيماء وبالرأس ،ومن أدوات الحجاج اعتماد التهديد والترهيب كأسلوب للإقناع الخطابي في النصوص الدينية والسياسية ، ويمكن أن نجد لهذا النوع من الإقناع الذي ينحو منحى استسلاميا أمثلة متعددة في الخطابة العربية كخطبة زياد بن أبيه لأهل البصرة ، وخطبة الحجاج لأهل العراق، وخطبة زيد بن المقنع العذري الذي سعى في ضمان ولاية العهد إلى يزيد بن معاوية، فخطب في حضرة معاوية (ض) قائلا: "هذا أمر أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية ، فإن هلك.. وأشار إلى ولده يزيد فان أبيتم فهذا ..وأشار إلى سيفه . هذا ويمكن الحديث على أنواع أخرى للحجج منها :
1- حجة التبرير l'argument de gaspillage ، وأداتها "بما أن "
2- حجة الاتجاه direction ،وغرضها التحذير من انتشار شيء ما .
3- الحجة التواجدية، تبنى على علاقة الشخص بعمله، ويمكن أن نمثل لها بقوله (ص) :
" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" إذ يكن أن نقول بأن المتعلم كشخص في جوهره ليس فضوليا ،وعمل ترك ما لا يعنيه من تجليات حسن الإسلام .
4- الججة الرمزية: للرمز قوة تأثيرية في الذين يقرون بوجود علاقة بين الرامز والمرموز إليه كدلالة العلم في نبسته إلى وطن معين ، والهلال بالنسبة إلى حضارة الإسلام ،والصليب بالنسبة إلى المسيحية ،والميزان إلى العدالة .
5- المثل: إنّ الغاية من اعتماده حجاجيا هو التأسيس للقاعدة ، والبرهنة على صحتها .
6- الاستشهاد: غايته توضيح القاعدة ،وتكثيف حضور الأفكار في الذهن ، وربما كان الاستشهاد أداة لتحويل القاعدة من طبيعة مجردة إلى أخرى محسوسة ، ولعل القرآن الكريم فيما يقدم لنا من أمثلة حجاجية أهم مصدر لهذه الأشكال الحجاجية ، على أن العناية بالاستشهاد القائم على التمثيل مقيد بجملة من القيود لعل أهمها؛ عدم إطنابه،ومن الحجج المعنمدة أيضا المعطيات العددية الناتجة عن الإحصاء .
يتبع.../...