2012/09/28 (آخر تحديث: 2012/09/28 على 19:49)
تصوير: (ح.م)
61
kaheel7.com way2allah
لعلّه من المناسب ونحن لم نزل نعيش تداعيات الإساءات المتكرّرة إلى خير خلق الله، أن نعود في هذه الأسطر 1422 سنة إلى الوراء، لنقضي لحظات لعلّها تكون من أنفع اللّحظات مع خاتم الأنبياء وإمام المرسلين وسيّد ولد آدم أجمعين، في أيام حياته الأخيرة، أيام لخّصت حياته، وأبانت عن حقيقة الرّوح الطّاهرة التي كان يحملها بين جنبيه، وعن قمّة النّبل البشريّ الذي بلغه رجل عاش في دنيا النّاس؛ سعِدت الأرض حين أظلّته، وسرّت السّماء يوم أقلّته. تعطّرت أنفاسٌ خالطت أنفاسه، واكتحلت بالنّور أعين حظيت برؤية طلعته التي كانت أبهى من طلعة القمر ليلة البدر، رجل لم يكن يعيش لنفسه، ولم يكن يحمل همّ الجيل الذي بعث فيه فحسب، وإنّما عاش للبشرية جميعا، وحمل همّ الأجيال التي ستأتي بعده؛ لأنّه خاتم الأنبياء ولا نبيّ بعده.
فما أروع أن نعود إلى الوراء لنعيش مع هذا الرّجل -الذي كان طفرة في عالم البشر- أيامَ حياته الأخيرة؛ أيام وعظ فيها فأبكى، ونصح فيها فأوفى ووصّى فيها فأبلغ، وودّع فيها فأسال دماء القلوب قبل أن يسيل مياه العيون .
الحبيب تُنعى إليه روحه قبل 03 سنوات من رحيله
في السّنة الثامنة للهجرة تحقّق وعد الله تبارك وتعالى لنبيّه الكريم بفتح مكّة آمنا غانما، وأقام فيها ما شاء الله له أن يقيم، وجاءته الوفود مسلمة مذعنة، ودخل النّاس في دين الله أفواجا، ونزلت عليه آيات سورة النّصر التي قرأ بين كلماتها أنّ روحه قد نعيت إليه.
عاد صلوات ربّي وسلامه عليه إلى مدينته ومهد دولته التي انطلقت منها مشاعل النّور والهداية إلى شتى أصقاع المعمورة، واستمرّ يبعث البعوث ويرسل السّرايا لإخراج البشريّة من ظلمات وذلّ العبوديّة لغير الله إلى نور وعزّ العبوديّة لله وحده.
وفي السّنة العاشرة للهجرة قبل عام من رحيله عن هذه الحياة، بعث صلوات ربّي وسلامه عليه معاذ بن جبل إلى اليمن يعلّم أهلها دين الله، وكان ممّا قال له: ( يا معاذ!. إنّك عسى ألاّ تلقاني بعد عامي هذا، ولعلّك أن تمرّ بمسجدي هذا وقبري ). كلمات نزلت كالصّاعقة على قلب معاذ رضي الله عنه، تمنّى لو يبقى مع نبيّ الله عليه الصّلاة والسّلام ولا يفارقه أبدا، لكنّه أمر الله ورسوله.
كلمات الوداع تقرع الأسماع في حجّة الوداع
في أواخر السّنة العاشرة عاد الحبيب ?صلّى الله عليه وآله وسلّم- إلى مكّة حاجّا حجّة الوداع. ليُلقي نظرة الوداع على الآلاف المؤلّفة التي استجابت لدعوته من كلّ الأصقاع، وهناك ألقى خطبته المشهورة التي لخّص فيها شرائع الإسلام وحدوده، وأشهد النّاس على أنّه بلّغ رسالة ربّه وأدّى أمانته.
لقد كان مشهدا مهيبا تقطّعت له نياط القلوب وأجهشت له العيون. نبيّ الله الخاتم يقف خطيبا وآذان 144000 من المسلمين ترهف لسماع كلماته، وتتعلّق أعينهم بقسماته. كان ممّا قال: ( أيّها النّاس اسمعوا قولي فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا: إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كلّ شيء من أمر الجاهليّة تحت قدميّ موضوع، ودماء الجاهليّة موضوعة، وربا الجاهليّة موضوع)، وأوصى بالنّساء خيرا، ثمّ قال: ( وقد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به فلن تضلّوا بعدي أبدا كتاب الله وسنّتي. أيّها النّاس إنّه لا نبيّ بعدي ولا أمّة بعدكم، ألا فاعبدوا ربّكم، وصلّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدّوا زكاة أموالكم طيّبة بها أنفسكم، وحجّوا بيت ربّكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنّة ربّكم، وأنتم تسألون عنّي، فما أنتم قائلون؟) فارتجّت جنبات مكّة بقول المسلمين: نشهد أنّك قد بلّغت وأدّيت ونصحت، فرفع عليه الصّلاة والسّلام سبّابته إلى السّماء قائلا: ( اللهمّ فاشهد ) يردّدها ثلاثا.
إنّها وصيّة أيّما وصيّة، ما ذلّ المسلمون ولا هانوا إلاّ بعد أن تركوا العمل بها؛ يوم استحلّ بعضهم دماء بعض، وحاد كثير منهم عن شرع الله، فهانت دماؤهم واستُحلّت أموالهم من قِبل من كانت ترتعد فرائص أجدادهم ويدبّ الذّعر في أوصالهم إذا سمعوا بقدوم سريّة من سراياه صلوات ربّي وسلامه عليه. يوم ترك أكثر المسلمين كتاب ربّهم خلفهم ظهريا وهجروا سنّة نبيّهم واستنّوا بسنن من غضب الله عليهم ومن ضلّوا من اليهود والنّصارى. يوم استحلّ بعض المسلمين الرّبا وتفنّنوا في أكله. يوم ضيّع كثير من المسلمين الصّلوات ومنعوا الزّكوات واتّبعوا الشّهوات، وصدّوا غيرهم عن دين الله ربّ البريات.
آخر البعوث والسّرايا رسالة للأمّة وللعالم
لمّا انتهت شعائر الحجّ عاد الحبيب المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- إلى المدينة مرّة أخرى؛ كانت عودة أيّ عودة، عودة لا رحيل بعدها إلاّ إلى الرّفيق الأعلى، وفور عودته جهّز آخر بعوثه وسراياه؛ جيشا كبيرا أمّر عليه شابّا في عنفوان شبابه، لتأديب الرّوم على تخوم فلسطين، وهو بذلك يريد -صلوات ربّي وسلامه عليه- أن يعلن أنّ فلسطين ينبغي أن تكون وتبقى مسلمة، ويريد أن يُفهم الأعداء أنّ المسلمين أمواج بحر لا تنتهي، كلّما تلاشت موجة تلتها أخرى وأخرى وأخرى، وأنّ هذا الدّين سيبقى متجدّدا، وأنّ الله سيغرس في هذه الأمّة وفي شبابها من يحمل راية هذا الدّين لتبقى خفّاقة إلى يوم القيامة، شباب أصحاب همم عالية يقاومون المغريات ويتعالون على الشهوات راغبين في جنّة عرضها الأرض والسّماوات.
دقّات ساعة الرّحيل تتسارع
رأى العباس بن عبد المطلب عمّ النبيّ ?صلّى الله عليه وآله وسلّم- في المنام كأنّ الأرض تنزع إلى السماء بحبال شداد، فقصّ ما رأى على ابن عمّه فقال عليه الصّلاة والسّلام: ( ذاك وفاة ابن أخيك).
أحسّ صلوات ربّي وسلامه عليه بدقّات ساعة الرّحيل تتسارع، وبينما كان عائدا في طريقه من جنازة شهدها بالبقيع في اليوم الـ 29 من شهر ذي القعدة من العام 11 للهجرة إذ بصداع حادّ يأخذ رأسه، وقد اتّقدت حرارته عليه الصّلاة والسّلام، لكنّه تحامل على نفسه وصلّى بالنّاس مريضا 11 يوما حتّى أقعده المرض عن ذلك.
لقد كانت أياما عصيبة عاشها الصّحابة رضوان الله عليهم، إمامهم ومعلّمهم الذي ملأ أيّامهم هدى وعلما ونصحا يذبل أمام أعينهم، ألمّ بهم من الحزن ما الله به عليم، ولكنّهم لم يكن يخطر ببالهم أنّه مرض الموت الذي سيغيّب عنهم حبيبهم.
في أيامه الأخيرة كان يطوف على نسائه ويسأل كلّ ليلة دور مَن مِن أزواجه من الغد. ففهمت أمّهات المؤمنين مراده وعلمن أنّه يستأذنهنّ أن يستقرّ في بيت الصدّيقة بنت الصدّيق عائشة رضي الله عنها وأرضاها؛ فالمرض قد ثقل عليه وصار لا يقوى على التّنقّل.
إلى دار المخلصة الحَصان الرّزان عائشة كان المسير الأخير، عائشة بنت من؟ بنت أعظم رجل مشى على الأرض بعد النبيين، صاحب خاتم الأنبياء وإمام المرسلين. مشى صلوات ربّي وسلامه عليه بين الفضل بن عبّاس وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما عاصبا رأسه تخطّ قدماه الأرض، حتّى دخل بيت عائشة ليقضي فيه أسبوعه الأخير.
آخر الوصايا في آخر خطبة تلمّح إلى اقتراب موعد الرّحيل
قبل خمسة أيام عن موعد الرّحيل اشتدّ به الوجع حتّى أغمي عليه، فلمّا أفاق قال: ( صبّوا عليّ سبع قرب من آبار شتّى حتّى أخرج إلى النّاس فأعهد إليهم ) فصبّت عليه فشعر بخفّة وخرج إلى النّاس معصوب الرّأس وجلس على المنبر وعيون المسلمين معلّقة به، وأجسادهم كأنّما تسمّرت في أماكنها، ينصتون لما يقوله عليه الصّلاة والسّلام.
لم يكونوا يدركون أنّها ستكون كلمات مودّع، كانوا يظنّون أنّه مرض عارض يدوم أياما ثمّ يعود إليهم إمامهم وقدوتهم كما كان، كان ممّا قال في ذلك اليوم: ( لعن الله اليهود والنّصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتّخذوا قبري بعدي وثنا يعبد). لا إله إلاّ الله، اهتمام بعقيدة التّوحيد في آخر أيامه؛ عقيدة التّوحيد التي ما ذلّ المسلمون ولا هانوا إلاّ لمّا فرّط الكثير منهم فيها، وصارت قبور من هم أدنى منه منزلة تتّخذ مساجد وتقام عليها القباب وتشدّ إليها الرّحال وتوقد عندها السّرج ويذبح عندها لغير الله ويستغاث بأصحابها من دون الله.
ثمّ تأتي الكلمات التي أذابت قلوب من سمعها، قال عليه السّلام: ( من كنتُ جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقدّ منه ). فيا الله! أيّ زعيم من زعماء الدّنيا وقف هذا الموقف في أواخر أيام حياته؟. صلوات ربّي وسلامه عليه، أهذا ما كان يخشاه؟. يخشى أن يكون قد ظلم أحدا من النّاس، وهو من حمل إلى البشرية الخير كلّه، وتحمّل في سبيل ذلك ألوانا وصنوفا شتى من العذاب. يخاف أن يكون قد قصّر في حقّ أحد ممّن حوله وهو من كان يفترش الحصير حتّى أثرّ في جنبه، ويشدّ الحجر على بطنه من وطأة الجوع، وهو من كان أوّل من يجوع وآخر من يشبع.
نزل عليه الصّلاة والسّلام وصلّى بالنّاس الظّهر، ثمّ صعد المنبر مرّة أخرى فقابلته وجوه الأنصار الذين باعوا دنياهم وآووا رجلا مطرودا من بلده، يسعى في أثره مجرمو قومه، فقال: ( إنّ النّاس يكثرون وتقلّ الأنصار حتّى يكونوا كالملح في الطّعام، فمن ولي منكم أمرا يضرّ فيه أحدا أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم ). لا إله إلا الله، أيّ وفاء هذا الذي يحمله هذا الرّجل في صدره، لم ينس إحسان قوم لم يكن إحسانهم يمثّل قطرة في بحر الخير الذي لحقهم بسببه.
ثمّ استجمع صلوات ربّي وسلامه عليه أنفاسه، واستجمع كلماته التي كانت لكأنّما تخرج من بئر عميقة، وقال: ( إنّ عبدا خيّره الله أن يؤتيه من زهرة الدّنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده )، كلمات كانت كالسّهم انطلقت لتصيب قلب أخلص أصدقائه، لم يتمالك الصدّيق أبو بكر -رضي الله عنه- نفسه فانفجر باكيا وهو يقول: " فديناك بآبائنا وأمّهاتنا يا رسول الله "، عجب النّاس لبكاء الصدّيق الذي أدرك ببصيرته وبمعرفته لأحوال النّبيّ ?صلّى الله عليه وآله وسلّم- أنّه عليه الصّلاة والسّلام هو المخيّر بين الدّنيا والآخرة وأنّه اختار الآخرة، فما كان من الحبيب المصطفى إلاّ أن قال): إنّ أمنّ النّاس عليّ في صحبته وماله أبوبكر، ولو كنت متّخذا خليلا غير ربّي لاتّخذت أبابكر خليلا، ولكن أخوّة الإسلام ومودّته، لا يبقين في المسجد باب إلاّ سدّ إلاّ باب أبي بكر ). صلوات ربّي وسلامه عليه، يوم انتسب إلى الإسلام من يسبّ صاحبه ويكفّره ويتّهمه بالردّة عن دينٍ بذل في سبيله نفسه وماله وجنّد له أهله. ويتّهمه بالحيدة عن سنّةِ نبيّ اختلط حبّه بدمه ولحمه وعظمه، واستعذب في سبيل نصرته كلّ صنوف العذاب. رضي الله عنه وأرضاه وأعاد إلى الحقّ من أبغضه أو عاداه.
في اليوم التالي يوم الخميس 08 من ربيع الأول أوصى عليه الصّلاة والسّلام بإخراج اليهود والنّصارى من جزيرة العرب. صلوات ربّي وسلامه عليه، يوم صار للصّليبيين في جزيرة العرب قواعد ينطلقون منها لشنّ هجماتهم الظّالمة لإبادة المسلمين في العراق وأفغانستان، فإلى الله وحده نشكو وبه نستعين.
آخر صلاة جهرية يصلّيها الحبيب بأحبابه
ومع غياب شمس يوم الخميس أذّن بلال لصلاة المغرب بصوت رخيم طالما دوّى في سماء المدينة لمّا كان المصطفى عليه الصّلاة والسّلام في كامل عافيته، خرج -صلوات ربّي وسلامه عليه- ليصلّي بالنّاس آخر صلاة جهرية يؤمّ فيها النّاس. لقد كانت صلاةً أيّ صلاة، لعلّ جدران المسجد تكون قد أنّت لفراق ذلك الصّوت العذب الذي لن يسمع مرّة أخرى بينها. إنّها لحظات من أصعب اللّحظات. لعلّ سواري المسجد كانت تقول: "ليتها تطول. ليتها لا تزول". لكنّه قضاء الله الذي لا يردّ.
عند العشاء اشتدّ به المرض وأغمي عليه فلمّا أفاق قال: ( أصلّى النّاس؟ ) قالت عائشة: لا يا رسول الله. هم ينتظرونك، فأمر بالماء فوضع له ليغتسل فاغتسل، ولمّا أراد القيام أغمي عليه مرّة أخرى، فعل ذلك ثلاث مرّات. فلله ما أعظم هذه النّفس التي لم يقوَ ذلك الجسد المرهق على حملها. نفس لا تنسى حقّ الله في أصعب الأوقات وفي أحلك المواقف. فلله درّها من نفس عزيزة وروح طيّبة، وسلام عليها ألف سلام في زمن ذلّت النّفوس فيه للشّهوات. كم من غارق في نومه وصوت المؤذن قد بحّ بالنّداء؟. كم من مريض ترك الصّلوات في وقت هو أحوج ما يكون إلى ذكر ربّ الأرض والسّماء؟. إنّها النّفوس التي ما قدرت الله حقّ قدره فآثرت الفاني على الباقي واتّبعت الأهواء وتمنّت على الله الأماني.
لمّا أفاق عليه الصّلاة والسّلام وأيقن أنّه لا يقوى على الخروج إلى النّاس قال: ( مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس )، فقالت عائشة رضي الله عنها: إنّ أبا بكر رجل أسيف كثير البكاء إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلّي بالنّاس، فمُر عمر يصلّي بهم. فأعاد قوله ( مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس ). فكرّرت عليه عائشة رضي الله عنها ما قالت فقال: ( إنّكنّ صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس ). أبى صلوات ربّي وسلامه عليه أن يصلّي بالنّاس أحد غير أبي بكر ولو كان هذا الغير هو الفاروق عمر ?رضي الله عنه-، وهو بذلك يريد أن يدلّ النّاس على أفضل من يخلفه بعد وفاته.
صلّى أبو بكر )رضي الله عنه) بالنّاس 17 صلاة قبل وفاته عليه السّلام.
قبل موعد الرّحيل بيوم، وجد -صلوات ربّي وسلامه عليه- خفّة في نفسه فخرج بين رجلين لصلاة الظّهر وأبو بكر يصلّي بالنّاس، فأراد أبو بكر أن يتأخّر فأشار إليه بيده أن مكانك، فجلس -عليه الصّلاة والسّلام- عن يساره، فكان يصلّي وأبو بكر يقتدي به والنّاس يقتدون بأبي بكر. رفض لأبي بكر أن يتأخّر وهو بذلك يريد أن يوصي النّاس من بعده أنّ أبابكر لا ينبغي أبدا أن يؤخّر. ما كان لمؤتمّ أن يصلي إلى جانب الإمام، ولكنّه الإيمان الذي رفع أبا بكر إلى ذلك المقام الذي لم يبلغه أحد من غير الأنبياء قبله، ولن يبلغه أحد بعده. إنّه صاحب الجسم النّحيل الذي يحمل بين جنبيه نفسا ما تقوى أجساد الأقوياء الأشدّاء على حملها. إنّه الرّجل الذي قال فيه الفاروق ?رضي الله عنه-: " لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أمّة لرجح إيمان أبي بكر". إنّه الرّجل الذي سمع في يوم من أيام مكّة بالنبيّ ?عليه السّلام- يُضرب عند الكعبة فانطلق كالسّيل الدّفّاق يردّهم عنه وهو يبكي ويقول: " أ تقتلون رجلا أن يقول ربّي الله ؟. أ تقتلون رجلا أن يقول ربّي الله؟ "، فما كان منهم إلا أن تركوا النبيّ ?صلّى الله عليه وسلّم- وأقبلوا على الصدّيق ضربا وركلا ورفسا حتى حمل إلى بيته لا يعرف له وجه من كثرة الدّماء التي سالت على وجهه. ولمّا أفاق من غيبوبته قال: ما فعل رسول الله؟ فلاموه على ما فعل فقال: " والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أرى رسول الله ". إنّه الرّجل الذي سمع النبيّ ?عليه الصّلاة والسّلام- يوما يقول: ( ما نفعني مال قطّ مثلما نفعني مال أبي بكر ) فبكى وقال: " وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله ؟ ".
اليوم قبل الأخير والتخلّص من متاع الدّنيا الحقير
يوم واحد ويرحل المصطفى عليه الصّلاة والسّلام عن الحياة. طاف صلوات ربّي وسلامه عليه ببصره في حجرته البسيطة، فوقعت عيناه على متاعه من الدّنيا، وأيّ متاع؟ غلمان كان أحنّ وأرأف عليهم من والدِيهم، وسبعة دنانير، وسلاحه، وحفنات من شعير، أعتق الغلمان وتصدّق بالدّنانير ووهب سلاحه للمسلمين، لتضطرّ عائشة رضي الله عنها لاستعارة الزّيت لإيقاد المصباح تلك اللّيلة.
فيا الله. أكرم الخلق على الله وحاكم أعظم دولة قامت على الأرض، تستعير زوجته الزّيت لإيقاد
اليوم الأخير ونظرة الوداع
في اليوم الأخير يوم الاثنين الموافق لـ12 من ربيع الأوّل من السّنة الـ 11 هـ، في ذلك اليوم وبينما المسلمون صفوف خلف أبي بكر يصلّون الفجر، إذ بستر حجرة رسول الله ?صلّى الله عليه وسلّم- يرفع، وإذ بوجهه المنير ينظر إليهم متبسّما، فرِح المسلمون لمّا رأوا ذلك، فأشار إليهم بيده أن أتمّوا صلاتكم، ثمّ أرخى السّتر على حجرته وهم لا يعلمون أنّها نظرة الوداع.
إنّها المرّة الأخيرة التي يرون فيها وجهه الكريم. ابتسم عليه الصّلاة والسّلام لمّا أطلّ عليهم ورأى الصّفوف متراصّة والمسجد يغصّ بالمصلّين في صلاة الفجر. فليت شعري، هل يطيب لنا أن نبتسم الآن ومساجدنا تشكو إلى الله هجر المصلّين لها في صلاة الفجر؟ فما الذي دهانا؟ ما الذي أصابنا؟ ما الذي حلّ بنا؟. كيف يحلو لأحدنا أن ينام عن الصّلاة والمنادي ينادي: الصّلاة خير من النّوم. الصّلاة خير من النّوم؟! هل أطفأت رياح الشّهوات شموعَ الإيمان في قلوبنا فأظلمت وتاهت في غياهب الذلّ والعبودية للأهواء والشّهوات فحرمت لذّة مناجاة ربّ الأرض والسّماوات؟.
وحين ارتفعت شمس الضّحى من ذلك اليوم، دعا -عليه الصّلاة والسّلام- ابنته فاطمة -رضي الله عنها- وأسرّ إليها بشيء فبكت، ثمّ دعاها وأسرّ إليها بشيء آخر فضحكت، أخبرها في الأولى أنّه سيقبض في مرضه الذي هو فيه فبكت، وأخبرها في الأخرى أنّها أول أهله لحوقا به فضحكت. دعا الحسن والحسين فقبّلهما وأوصى بهما خيرا، ودعا زوجاته فوعظهنّ وذكّرهنّ وأوصاهنّ. كان من آخر ما أوصى به يردّد ذلك مرارا ( الصّلاة. الصّلاة وما ملكت أيمانكم ).
ملك الموت يستأذن الحبيب وملك الوحي يودّع الأرض وأهلها
بدأت السّكرات تنزل بالحبيب -عليه الصّلاة والسّلام-، فكان يضع يده في إناء فيه ماء فيمسح وجهه ويقول: ( لا إله إلاّ الله. إنّ للموت لسكرات ). لا إله إلاّ الله حتّى أنت يا رسول الله تعاني سكرات الموت. إنّه لو كان من البشر أحد ينجو منها لنجوت أنت، ولكنّها كأس الموت التي لا بدّ لكلّ عبد أن يشرب منها.
ثمّ رفع عليه الصّلاة والسّلام إصبعه السّبابة وتمتم قائلا: ( مع الذين أنعمت عليهم من النبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين، اللهمّ اغفر لي وارحمني وألحقني بالرّفيق الأعلى، اللهمّ الرّفيق الأعلى، اللهمّ الرّفيق الأعلى )، استأذنه ملك الموت في قبض روحه فقال صلوات ربّي وسلامه عليه: ( امض لِما أُمرت به ). فما كان من جبريل عليه السّلام إلا أن قال: "السّلام عليك يا رسول الله، هذا آخر موطئي من الأرض". لا إله إلا الله. آخر موطئ لملك الوحي جبريل عليه السّلام في هذه الأرض. انقطع الوحي وختمت رسالات السّماء. فيا لها من لحظات عاشها جبريل عليه السّلام.
قبضَ ملك الموت أطهر روح حملها أطهر جسد سار على الأرض. مالت يد الحبيب المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- وصعدت روحه الطيّبة إلى باريها عزّ وجلّ.
لا إله إلا الله. أيّ أكفان حملت تلك الرّوح لتشيّعها إلى السّماء؟، وأيّ حنوط حنّطت به؟، وأيّ ريح أطيب من تلك الرّوح سيجدها أهل السّماء؟. { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ }. { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}.
الحزن يكسو قلوب الصّحابة بليل بهيم
أبتاه أجاب ربّا دعاه. أبتاه إلى جنّة الفردوس مثواه. أبتاه إلى جبريل ننعاه ". كلمات خرجت من صدر فاطمة الذي امتلأ حزنا على فراق أرحم وأرأف أب عاش في دنيا النّاس. بلغَ النّبأ الصّحابةَ ليعصر قلوبهم ألما. مات الحبيب. مات الحبيب الذي عرفوا الحقّ على يديه. مات الحبيب الذي ألفوا سماع حديثه معلّما ومرشدا وناصحا. مات الحبيب الذي ألفوا رؤيته والابتسامة لا تكاد تفارق وجهه الذي يتلألأ نورا كأنّه القمر ليلة البدر. مات الحبيب الذي وسع صدره همومهم وقلبُه حبّهم. مات ولكنّه ترك فيهم ما لن يضلّوا أبدا لو تمسّكوا به: كتاب الله وسنّة نبيّه.حزن الصّحابة حزنا شديدا كسا قلوبهم بليل بهيم في وضح النّهار، لم يصدّق الكثير منهم الخبر، وذهل بعضهم وصار يسير في المدينة من دون أن يعرف وجهته، وجلس البعض منهم في المسجد لعلّ آتيا يأتيهم ليكذّب الخبر، وقام الفاروق عمر يهدّد من يصدّق هذا النّبأ، فثبّت الله أمّة نبيّه بأبي بكر الذي عاين الحقيقة وصدّق الخبر، وقام في النّاس خطيبا يثبّت القلوب ويحدوها لمواصلة الطّريق واتّباع الأثر، لمتابعة طريق رسمها حبيبهم وأوضح لهم معالمها، جزاء السّائر فيها ورود حوضه ولقياه في الجنّة.
وماذا بعــــــد؟
هكذا كانت الأيام الأخيرة لخليل الرّحمن وخير خلق الله، كانت أياما أبانت عن رجل من معدن نادر الوجود، رجل أتته أموال الدّنيا فآثر بها غيره، رجل كان بوسعه أن ينافس القياصرة والأكاسرة في خيلائهم، ولكنّه اختار أن يشارك الفقراء عيشهم، ينام على الحصير ويرضى بأيسر اليسير. لم ينافس أحدا من عباد الله على شيء من متاع الدّنيا ولم يحرّمه على أحد. لم يخصّ أحدا من ذويه بعطية ولم يترك لهم بعده درهما ولا دينارا ولا متاعا.
فلماذا يريد شانئوه أن يكسبوا الدّنيا بالطّعن فيه وهو الذي لم ينافس عليها أجدادهم الأوائل؟ ولماذا يصرّون على عداوته وهو الذي كان أحرص ما يكون على أن يخرجهم من ضيق الدّنيا إلى سعة الدّنيا والآخرة، ومن جور الأديان الباطلة إلى عدل الدّين الحقّ؟. ولماذا يلقون عليه بالتّهم الباطلة وهو الذي ترك للبشرية وصايا أقرّ مفكّرو العالم ومنظّروه أنّها وصايا تصلح لتكون دستورا تنعم البشرية في ظلّها بكلّ خير ورخاء؟. الجزائر (جريدة الشروق )
wassitalkhir.com
kaheel7.com way2allah.com