كريتون يتوسل إلى سقراط قائلا" يا سقراط ! ما تزال الشمس مشرقة فوق الجبال، و لا حاجة لأن تتسرع في شرب السم ، فلم يحن الموعد بعد"، و لكن سقراط نفذ إرادته و شرب السم أمام الملأ.
سنة399 ق م لم تعرف فلسفة أخرى تضاهي فلسفة سقراط على الإطلاق، رغم كثرة مجادليه و محاوريه الذين اتفقوا فيما بينهم كلهم على دحضه للكشف على اهتراء فلسفته عكس ما كان يدعى سقراط بكل إعجاب، في هذه السنة بلغ فيها سقراط ذروته و شاعت شهرته و كثرت شعبيته و خاصة بين الشبان المتحمسين للحكمة، و أيضا المتحمسين لطريقة سقراط التي كان يتهكم بها على خصومه، كاشفا بها عن جهلهم و ضعفهم و جاعلهم ينسحبون قبل إنهاء الحوار يجرون خيوط الخيبة و العار، و هذا ما ولّد التضايق و الكره لسقراط في أوساط خصومه و المحافظين الذي كان يزداد يوما بعد يوم، حتى إنتهى باتهامه بالإلحاد و إفساد شباب أثينا بعدما كان لا يفارق مجالسهم و قضاياهم، كشأن تلميذه خيرفون النحيل الذي ذهب إلى معبد دلفي ليسأل الإله: هل يوجد رجل أحكم من سقراط؟فأجابته الكاهنة بلسان الوحي: لا ،و هي في العادة تقدم الأجوبة التي يرغب فيها السائل، و لعل قصد خيرفون من هذا هو وثوقه كل الثقة بأن سقراط يعرف جواب كل سؤال أكثر من أي رجل آخر، فكان سقراط شأن كثير من المعلمين يرد على السؤال بالسؤال.
إشتهرت سنة 399 بسنة محاكمة سقراط أو ما يعرف بسنة محنة سقراط و سنة بداية إضطهاد الفلسفة و العلم، و الذي كان مؤشرا على الصعوبات و الويلات التي
*- ص ب 317 الرمشي 13500 تلمسان الجزائرzohirhigel@maktoob.com
تنتظرهما مستقبلا، لأن محاكمة سقراط حجبت بصيتها جميع ما عداها من المحاكمات في تاريخ أثينا، التي تمت مرافعتها تحت الإتهامات التالية" إن سقراط لا يؤمن بالآلهة التي تؤمن بها المدينة، و أدخل عبادة آلهة جديدة، و أيضا فهو يفسد الشبان فالعقوبة المطلوبة هي الموت".
لماذا هذه المحاكمة و في هذا الوقت بالذات؟.
محاكمة سقراط:
كان سقراط في السبعين من العمر و كان قد اعتاد على طرح الأسئلة الحرجة منذ شبابه لا يمكن لأبنا أثينا أن ينسوها بسهولة، و الواقع كما ذكر أفلاطون أن سقراط كان رجلا متدينا ورعا، و إن كان لا يؤمن بالكثير من الحكايات الشعبية المقدسة التي تدور حول الآلهة، بحيث يمكن القول أن الآلهة التي كان يؤمن بها سقراط لم تكن هي آلهة المدينة و هو ما فعله من قبل أنا كساغوراس، إلا أن أناكساغوراس لم يعدم مثل سقراط بل طرد من المدينة، و هذا راجع بطبيعة الحال إلى اعتبارات سياسية معروفة كان يحضى بها أبناء المدرسة السفسطائية.
في عام 399ق م كان المناخ العام غير ملائم للفلسفة و للعامة الأثينية التي ينتمي إليها سقراط، سنة بدأ سقراط يشعر فيها بالعزلة بسبب وفاة تقريبا كل أصدقائه المقربين له و إختفاء تلاميذته بما فيهم أفلاطون الذي لازم فيها فراش المرض، و الذين بقوا على قيد الحياة فكانوا قد فقدوا مناصبهم العليا و اعتباراتهم الإجتماعية و غدو منبوذين في أثينا، في الوقت الذي كان فيه قادة الديمقراطية و التجار و كبار الصناعة و الإدارة لا يأبهون بثرثرة الفلاسفة و بالكلام النظري مثلما صرحوا به أثناء المحاكمة، بل كانوا ضد كل فلسفة و ضد كل علم و ثقافة، و لما قدم مليتوس و طلب من القضاء بإقامة دعوة قضائية هدفها طرد سقراط من أثينة مثلما حدث لأناكساغوراس، رفض القضاء دعوته مسرا على إعدامه.
و لكن من الذي كان وراء إعدامه؟ و ماذا كان ينتظر من إعدامه؟ و لماذا سقراط الفيلسوف بالضبط؟.
يقال أن سقراط قد خلق لنفسه أعداء كثر و من بين هؤلاء الديمقراطيين الذين كانوا أشد أعدائه، و أشهرهم القائد أنيتوس الذي جمع ثروة طائلة من دباغة الجلود، و يظهر أنيتوس في محاورة أفلاطون (مينون) حيث يجيب عن سؤال سقراط المفضل" هل يمكن تعليم الفضيلة؟"، فيجيبه جوابا مباشرا قائلا: إن الشخص الملائم لتعليم أي شاب إنما هو والده، و إما المختصون في التربية ، و إما السفسطائيين، فتفق عليهم، فقال سقراط:" تبدو سيئ الظن بالسفسطائيين، شديد الوطأة عليهم، فهل أذاك أحدهم في يوم من الأيام؟ فأجاب أنيتوس:كلا، فأنا لا أقترب منهم و لا أحتك بهم، و لا أتعاطى معهم، فقال سقراط:فإذن فكيف تعرف منهم؟ و ماذا يفعلون؟ و كيف يفكرون؟، فقال أنيتوس" أنا أعرف ذلك جيدا ، و ما لبث أن شعر بالإحراج فنصرف و لم يكمل حواره، و لكن لأنيتوس سبب أخر شخصي دفع به لتربص بسقراط و الشكوى منه غير هذه المجادلة التي جرت بينهما، و يقال أيضا أن هذا السبب ظهر عندما نصح سقراط ولد أنيتوس على أن يتخلى عن مهمة والده التي كانت تتمثل في دباغة الجلود، و أن يتفرغ للعلم و الفلسفة نظرا لما كان يملكه من ذكاء كبير، فسمع والده أنيتوس فرفض نصيحة سقراط بحدة و غضب، و أسر على ولده امتهان حرفة دباغة الجلود، و كان من نتيجة هذا الجدل وقع الولد في حيرة من أمره أدت به إلى الإعتزال و الإدمان على الخمر و الإنحراف، فرأى أنيتوس أن سقراط هو سبب ذلك، و على هذا تقدم أحد مقربي أنيتوس و هو ميلوتوس ، شاب خفيف اللحية ذو أنف كمنقار الطائر على حد تعبير أفلاطون، باتهام سقراط طالبا محاكمته، و لم يوافق أنيتوس على المحاكمة فقط و إنما حضر المحاكمة بنفسه و تكلم فيها مؤيدا ميلوتوس .
في هذا الشأن يقر أفلاطون و هو في العشرينات من العمر أن سقراط كان يسعى إلى المتاعب، فقد كان هذا الأخير يعتقد أن الإله قد كلفه بتبليغ رسالته، فقد كتب أفلاطون محاورة (دفاع عن سقراط) فيها يقوم سقراط بالفعل بينما كان ينتظر في الرواق الملك في الأغوارا أثناء بدء الإجراءات التمهيدية للمحاكمة ، أجرى حوار تعليمي مع يوثيفرون و هذا دليل على مدى تعلق سقراط بالحكمة حتى في أحلك الأوقات و في أروقة المحكمة، بطريقة السؤال و الجواب ، و يوثيفرون هذا كان متدين جاء للمحكمة ليقاضي والده عن جريمة قتل إنسان، فقد تسبب والده بوفاته و هو أحد عماله، كان يوثيفرون متأكدا من أن إرادة الإله تقضي أن يكفر القاتل عن جريمة القتل، فقال سقراط و هو يبدي إعجابه من موقف يوثيفرون : أوه، لا شك أنك خبير بالإلهيات فأرجو أن تعلمني حتى أتجنب الوقوع في المتاعب بسبب ما عسى أن أحمل من أفكار مخالفة للعقائد الصحيحة، و هكذا يبدأ الدرس بطريقة السؤال و الجواب و ما هي غير لحظات حتى وجد يوثيفرون نفسه يواجه السؤال التالي:" هل يستحسن الإله عملا و يوافق عليه لأنه خير؟، أم أن هذا العمل هو خير لأن الإله قد استحسنه؟ ، و لم يكن يوثيفرون قد فكر في هذا السؤال من قبل أبدا فأراد أن يجيب فطارده سقراط مرتين ، وجعله يدور و يلف دون جدوى و هنا تذكر يوثيفرون أنه على موعد في مكان آخر في حين أنه كان منذ دقائق ينتظر مثل سقراط قدوم ( الملك) أي الأرخون المكلف بالنظر في الشؤون الدينية ليفتتح المحاكمة، و في الدفاع أيضا يعامل سقراط المحكمة باحترام معقول و لكنه لم يذعن و لم يستسلم أبدا و نادى المجلس قائلا:" أيها الأثينيون لقد أحببتكم و احترمتكم و لكنني سأطيع الإله أكثر مما أطيعكم حتى و لو كان علي أن أموت أكثر من مرة" ، و قد وجه المحلفون في المحكمة 501محلفا تهما تتهمه على أنه مذنبا بأكثرية 281صوتا ضده، ثم جاء دور تقرير العقوبة و تحديدها ،و فيما عدا الحالات التي يحدد فيها القانون العقوبة ، كان للمحكوم في القانون الأثيني الحق في اقتراح عقوبة بديلة عن العقوبة التي يطلبها المدعي ، و كان يترك للمحلفين حق اختيار واحدة من العقوبتين التي يطلبها المدعي، و ربما لو أن سقراط إختار عقوبة النفي لكان من المحتمل أن يقبل إقتراحه، و لكن لم يكن يريد أبدا أن يبتعد عن أثينا ، و بعد أن تشاور مع أصدقائه الذين توصلوا إليه و ترجوه أن يكون معتدلا و معقولا في رده، سارع سقراط بالكلام و كان يبوح بذات صدره دون تفكير ، و بناءا على إعتقاده أنه من المحسنين على مجتمعه حينما كان يعلم أبناء أثينا دون مقابل، مقترحا بأن يغرم بثلاثة ألاف درهم ، و قالها بصراحة مع أن الجميع يعلم أنه لا يملك هذا المبلغ المرتفع و لو حتى و أن باع منزله بأثاثه فلربما يحصل على مئة درهم فقط، و هذا ما جعل المحلفين يعتبرون أن ما قاله سقراط هو إهانة لهم و للمحكمة الموقرة، فاختاروا له عقوبة الإعدام ، و حتى بعد صدور الحكم كان بإمكان سقراط أن يهرب من السجن، حينما رشا كريتون و هو أحد المقربين له حراس السجن، و لكن سقراط أبى أن يهرب قائلا" ألا أطيع أنا قوانين التي حمتني حتى الآن، لقد لزمت موقعي في الجيش حيثما كان القادة يضعونني، أفلا أقف صامدا في موقعي الآن بحيث وضعني الإله، أيكون الهرب من الموت يشبه سلوك أخيل في الإلياذة، " و بعد انتظار انقضاء الموسم الديني الذي كان يحرم فيه القتل، تحدث خلالها إلى أصدقائه، و لما سأله صديق و الدموع تنهمر من عينيه قائلا" الأمر فضيع جدا أن يحكم عليك بالموت في حين أنك لا تستحق هذه العقوبة" فأجابه سقراط" و هل تتمنى أن أستحق هذه العقوبة؟"، و يقال أنه أمضى ذلك اليوم الأخير من حياته في إثبات خلود الروح ، و لكن محاورة أفلاطون المشهورة( فيدون) و قد سميت نسبتا إلى شاب من إيليس، فيها كان سقراط قد طلب من كريتون أن يشتريه و يحرره من العبودية ، كما أوصاه بأن يقضي له دين للإله المتمثل في ديك بعد موته، و تبدو هذه الآراء أنها تمثل أراء أفلاطون الميتافيزيقية في مرحلة نضجه، و أفلاطون نفسه يقول أنه لم يحضر مجلس سقراط في ذلك اليوم الأخير، بسبب مرض ألم به ، و قد شرب سقراط كأس السم عند مغيب الشمس رافضا أن ينتظر حتى أخر لحظة من الموعد المتاح له، في حين كان الشفق ما يزال ظاهرا على قمة مايميتو ، و مات سقراط و بقيت روحه تؤرق معدميه. و هذه المحاكمة دليل على أن شخصية سقراط شخصية تاريخية كان لها أثر واضح على تاريخ البشرية، و ليس فقط شخصية وهمية وظفها أفلاطون في فلسفته ، بحجة أن سقراط لم يترك أثرا يدل على وجوده الحقيقي ، و نحن نقول أن سبب عدم لجوء سقراط للكتابة هو مدى إيمان سقراط بروحية المعرفة الخاصة بالنفس، و المعرفة سلوك إنساني وجب أن يسلكه في حياته، فالمعرفة عند سقراط هي تجربة شخصية و لا يمكن التعبير عنها بالكتابة ، و أيضا لا يمكن أسرها في النصوص المكتوبة ، فالمكتوب هو الثابت و الثابت في عهد سقراط هو الميت ، و المعرفة عند سقراط هي في صلة مستمرة بالواقع معبرة عنه، و الواقع هو الأخر في حركة مستمرة و متغيرة بتغير أفراده ، الأمر الذي جعل المعرفة عند سقراط تأخذ أحوال الإنسان و بالتالي تأخذ بأحوال الواقع المعاش، فالمعرفة فضيلة التي بحث عنها سقراط بين أوساط الناس حاثا أبناء أثينا على التحلي بها ، و الجهل رضيلة الذي كان سبب اقتتال أبناء اليونان فيما بينهم و الذي جعلهم أيضا يعيشون الحروب و العبودية، إذن فهو يوما ما كان يتنفس و يجادل و يحاور و يقاتل و يحزن و يسعد و أخيرا أعدم......طبعا إنه سقراط.
أفلاطون و الكتابة:
كتب أفلاطون معلقا على كتاب ديونيسيوس الثاني عنوانه فلسفة أفلاطون و هو إبن ديونسيوس الطاغي الذي أمر على بيعه في سوق العبيد في أجينا بليبيا، في الوقت كانت أثينا في عداء مستمر مع إسبرطة، الأمر الذي جعل إصدار قرار قتل كل أثيني يلقى عليه القبض فيها نتيجة العلاقة الطيبة التي كانت تربط أجينا باسبرطة، و لولا تدخل انيكريس من أهالي قورينا الذي إشتراه محررا قيوده، و تشاء الصدف أن هذا الشخص قد تجادل فيما سبق مع أفلاطون ، حينما إنتقد أفلاطون فلسفة اللذة التي ينتحلها. قائلا" لا توجد خلاصة فلسفتي دونتها أنا ، و لن توجد مثل هذه الخلاصة أبدا، لأن فلسفتي ليست شيئا يمكن وضعه في كلمات مثل سائر الدروس الموضوعة للتعليم، و لكن بالاتصال بالشيء ذاته اتصالا مباشرا و معايشته، يشرق نور في الروح فجأة كما لو أنه منبعث عن شعلة، نار تقفز فوق فجوة، و بعد ذلك تجد شعلة النار هذه غذاءها بها".، و يمضي أفلاطون قائلا " و لو كان بالإمكان كتابة خلاصة لفلسفتي لكنت أنا هو الرجل الذي يفعل ذلك، و هل بإمكاني أن أنفق حياتي في العمل خيرا من كتابة ما عسى أن يكون خدمة لبني الإنسانية تهدي جميع طبيعتهم إلى النور".
كان أفلاطون يخشى أن يكون التأثير الوحيد لخلاصة فلسفته على الكثير ممن يطلعون عليها، هو أن تملأ نفوسهم باحتقار الآخرين أو تملأ صدورهم بالغرور الباطل و كأنهم قد تعلموا شيئا عظيما هائل الجسامة، و كان يساور أفلاطون نفس الخوف من إثارة الكبرياء و الغرور الروحي، و كل ما بقي في استطاعة أفلاطون أن يدونه بالكتابة هو أن يروي أحاديث سقراط و محاوراته و أطرافا من سيرته ، و أن يكشف عن الأخطاء و عن الطرق الخاطئة في التفكير و أن يعيش الغرور و الكبرياء الفارغة التي كانت قد غدت شائعة في أيامه، فالحقيقة نفسها عند أفلاطون ليس شيئا يمكن صياغته بعبارات تكتب و تدون ، والفلسفة أي حب الحكمة عند أفلاطون تعني طريق حياة الصاعد إلى الحياة الأصلية، و قد علق أفلاطون على جميع الكتب التي تحاول تقديم فلسفته على أنها ستفشل في ذلك لأنه كان يعتقد أن فلسفته تستعصي على تلخيصها بالكتابة لأنها بكل بساطة تجربة ذاتية .