المعلم الذي نريد؟ نريده عمليا يبني بوعي ؛ لا نريده يصب العلم صبا في أواني يسهل انسكاب ما بها ؛ فتصير فارغة جوفاء تنتظر كسرها ومن ثم إلقاءها على أكوام القمامة ، أو دفنها في التراب !*
فليس بالإخلاص وحده تبنى الأمم ، وليست النوايا الحسنة هي من تجعل للجهود ثمرة تستحق التقدير ، والذي يؤلم و يحز في النفس أن ترى معلما لا يعي كنه مهنته ، ولا يفهم القصد من وراء هذه المهنة ، فلا يكون سوى لسان من غير عقل وما الإنسان على حقيقته إلا كما قال زهير :* لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُه فلم يبقَ إلا صورةُ اللحم والدمِ .
ولكي يكون ذلك على المعلم ان يعي الامور التالية :**
اولا: ما الغاية من مهنته ( ابدل الكلمة) الغاية العظمى ، وهي إرضاء الله – سبحانه وتعالى – بتنفيذ أوامره واجتناب ما نهى عنه.*
ثانيا:* ما الهدف الذي نعمل ونطمح ان نصل اليه ؟ هدفنا، إحياء مجد أمتنا التليد ؛ لنراها يوما في الصدارة حيث لا يحق لغيرها التقدم بين يديها ، وما يكون ذلك إلا بأن يكون كل سبق لغيرها هو لأدنى سبق يصنعه أبناؤها تبعُ .*
*ثالثا:ما الأهداف المتوسطة ؟ اهدافنا : بناء المجتمع القوي المتماسك ، النقي ، الذي يحكمه الخلق الفاضل والمعاني النبيلة ، وتدفعه الغاية السامية ، إضافة الى بناء الشخصية السوية روحا وجسدا ، قلبا وعقلا ، علما وعملا .*
رابعا: ما الهدف القريب ؟* اهدافنا تتمثل في التوظيف الصحيح والتوجيه السليم لكل معلومة من شأنها العمل على نمو النبتة أو تآزر الشطآن والبراعم أو استغلاظ الجذور والسيقان* .
ينبغي للمعلم أن يتدارس بين الحين والآخر الأهداف التربوية وأهميتها وما طرا عليها من تطور وتغيير ، لذا كان لازما على المؤسسة التربوية ان تطلع المعلمين على أحدث الدراسات في هذا المجال ، وأن تنفذ ورش العمل الجادة حول الكيفية التي نتعامل بها مع الأهداف بين الحين والآخر ؛ لإيضاح زوايا الرؤية وتكاملها …
*المعلم الذي نريد نريده مخلصا طموحا لا يرى له شبيها الا ذاك الفلاح الذي يكد بنفسه وكله امل ان يرى نتاج بذاره وزرعه ، يبذر بعد إعداده الأرض وتربتها فهو يعرف متى يبذر؟؟؟ ومتى يسقي؟؟؟ وكيف يرعى؟؟؟ ولماذا يرعى ؟؟؟؟؟ ثم هو لا يسمح لأحد أن يفسد عليه ما بذر وما زرع فيُضني نهارَه وُيسهر ليلَه إلى أن يرى منها ما يعجب المنصف الماهر من الزراع ويغيظ الحاسد المبغض من الكفار !!
*و نحن في غنى عن الكلام عن أهمية الإخلاص والتجرد عن السافل من حظوظ النفس والحقير من رغائب الدنيا ، ولئن كان الإخلاص واجبا في غير التربية وابدل الكلمة ، فهي في حق المعلمين أوجب ؛ رجاء نجاح أعمالهم ، وسيرورة مبادئهم ، وتحقق أهدافهم وقبول جهودهم .**
ولذا كان من الجميل أن يتذكر المربي قيمة إخلاصه بأن :-* يستعد نفسيا بتذكير نفسه بقصده ونيته من وراء مهنته وفنه في أول عامه ، ومع بداية يومه ، وعند ابتداء درسه.” قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ” يستعين بمذكرة أمامه تعلمه إن جهل ، تذكره إن نسي ، أوتعينه إن فتر.*
ويقع على عاتق الوزارة تذكرة المعلمين بغايتها بين الحين والآخر ، وليس هذا عيبا أو مما يقدح في قدرة المعلمين وإخلاصهم ، يقول تعالى : ” وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ” ،” ويقول ايضا :" إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد".*
*معلمنا الذي نريد،• نريده ربانيا، يرجو رضا ربه وحسنَ ثوابه من وراء عمله المتفق مع منهج الله - عز وجل - ومنهج استخلاف الإنسان في الأرض ..
*نريده متفقها في دينه ،• حكيما في قراراته وتصرفاته ..يقول ابن عباس : " كونوا ربانيين حكماء فقهاء " !*
وقال مفسرا قوله تعالى: " وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ" الرباني هو المعلم* "رباني* بإخلاصه في عمله ،• رباني باستحضاره رغبته في المثوبة الأخروية ،رباني بتوجيه أبنائه ورعايتهم بما يحب الله ويرضى ،رباني لأنه النموذج الذي يصنع من نفسه قدوة حسنة ".
*يقول المبرد : "الرباني هو الذي يرب العلم ويرب الناس به أي يعلمهم ويصلحهم " ،وقال ابن قيم الجوزية : "لا يوصف بكونه ربانياً حتى يكون عاملاً بعلمه معلماً له ، حكيما ؛ لأنه يضع كل أمر في نصابه ، يراعي العمر العقلي لأبنائه ، ويتفهم الفروق الفردية بينهم ،ويفرق ما يكون داخل الصف وما هو خارجه ، كما أنه يراعي الحدود بين الوقار والتواضع ، وبين الرحمة و التميع وضياع الشخصية ، مميزا بين " قسا ليزدجروا "، و " قسا لينكسروا "* ففيه ؛ درايةً بعلمه ،• وإحاطةً بفنه .*
وكل ما سبق هو الربانية الحقة ، نريده منضبطا جادا ،فلا قيمة أبدا لمن يقول ولا يفعل ، فالمعلم إن لم ينضبط ويكون جادا في عمله كيف يبث الجدية والانضباط في أبنائه عملا واقعا .
والانضباط في الوقت نفسه من الوفاء المطلوب ، وأداء الأمانات الواجب ، قال تعالى : " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " ،لذا كان لزاما على المعلم ان يصبر نفسَه على التبكير كل يوم بحيث يكون قبل أبنائه في المدرسة ، ويداوم على التحضير المتقن لدرسه أولا ، ويلتزم بموعد حصصه بدايةً ونهايةً ،الوفاء بالدرس على خير الوجوه، دون خروج عن القصد من إسراف أو تقتير ، اضافة الى القيام بالالتزامات المدرسية الأخرى دون تبرم أو تهاون ما استطاع .*
* المعلم الذي نطمح الى وجوده هو الذي يجعل من مادته وسيلةً لِبثِّ القيم الفاضلة ، مثل العزة والحرية والإيجابية والإحساس بالمسؤولية ، والعدل والصدق والوفاء … إنه يجعل من مادته طريقا لحائط جيل النصر الذي تنشده الأمة … وليعلم أن العلم الحق ما زان النفس بكل خلقٍ جميل فاضل ، ولله دَرُّ الشافعيّ حين قال :* إن لم يزد علمُ الفتى قلبَه هدىً وسيرته عدلا وأخلاقه حُسنا فبشرْهُ أن اللهَ أولاه فتنةً تغشّيه حرمانا وتُوسِعه حُزنا" ، فقضية القيم والاهتمام بها يجب أن تشغل بال المعلمين كثيرا من خلال المطالعة والدراسة واختيار أحسن الطرق والإجراءات والوسائل والأوقات للبث والتفعيل .
*المعلم الذي نريد، نريده ساعيا لتطوير نفسه وأدواته ، صاحب همة عالية لا يرضى أن يسبقه أحد .**
ورحم الله الرافعي حين قال : ليس كالمسلم في الخلق أحدْ ليس خَلقُ اليوم بل خلقُ الأبدْ واعجبي من رجل يرضى لنفسه أن يكون دون أضرابه همة ونشاطا وعلما وفهما !! أكان كبيرا عليه أن : يتابع كل جديد في مادته ، يهتم بالتدريب وإن لم يهتم به غيره ، يهتم بتعلم فنون الحاسوب والوسائط المتطورة ، وكيفية توظيفها لصالح مادته، يشارك بالكتابة والمراسلة والإبداع والمناقشة في كل ما يتصل بمادته ومهنته ،يحلل ويقيم المحتويات والمقررات الدراسية قبل الدخول في معمعة التدريس بوقت كاف ،* يتواضع ويسأل غيره عن كل ما استعصي عليه معرفته أو فهمه ؛ فهذا خير من العمل بجهل أو ضعف معرفة ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :* "هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال" .
نريده ذكيا متمرسا موهوبا لايضيع من يديه فرصة الحصول على الكنز،نعم الكنز ؛ فمن يدري ؟ ! فقد يكون على يديه بناء تلك الشخصية التي سيكون بها شرف استعادة مجد أمتنا الذي تاه وسط زحام حضارات أضرت أكثر مما نفعت ، أوقد يكون على يديه إزاحة تلك الطبقة الكثيفة من الأتربة التي علقت برداء الأمة الزاهر … وأذكرُ عند ذلك قول شوقي : وما نَيْلُ المطــالبِ بالتمنّي ولكــنْ تؤخذُ الدنيا غِـلابا وما اسْتعصى على قومٍ مَنالٌ إذا الإقدامُ كان لهم رِكــابا فرُبَّ صغيـرِ قومٍ علّمــوه سما وحمى المسوَّمَةَ العِرابا وكان لقـــومه نفعاً وفخراً ولو تركــوه كان أذىً وعابا فعلِّمْ ما استطعتَ لعــلَّ جيلا سيأتي يُحدِثُ العَجبَ العُجابا*
هل كان معلم محمد الفاتح يعلم أنه سيكون في قابل أيامه فاتح القسطنطينية العظيم ، أم كان معلم صلاح الدين الأيوبي يعلم ما خبأه الغيب لتلميذه من قيادة الجيوش وتحرير القدس ؟ هل كان يعلم معلمو الأفذاذ من العلماء والمخترعين والمفكرين ؛ أنهم إنما يعلمون من سينيرون ظلام الدنيا بعلمهم وفكرهم ؟ لقد كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يوجه أصحابه لمعالي الأمور منذ البدايات ألا ترى كيف قال - صلى الله عليه وسلم – لعبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – وهو غلام صغير يرعى الغنم : " إنك غلام مُعلَّم " منبها له إلى قدرة واستعداد داخلي بعيدا عن الالتفات إلى صفات أخرى في الغلام.*
معلمنا نريده مكتشفا لقدرات تلاميذه موجها لميولهم واستعداداتهم نحو غاية عظيمة واهداف تسعى امة لها قيمها ومبادئها نحو غاية هي ارضاء المولى عز وجل فالمعلم الحق هو من ينظر إلى أبنائه على أنهم جميعا أذكياء يتمتعون بقسط من ذكاء معين بقدر ما يجعلهم نافعين في المجتمع .*
نريده مخططا يسير وفق خطة محكمة : لا يسير حسبما اتفَق … جزافا ..، بل هناك خطة تحكمه ، وأهداف توجهه… ومراحل تستوقفه ، وليكن كما قال الشاعر محمد بن بشير :* قَدَّرْ لِرجْلِكَ قَبْلَ الخَطْو مَوْضِعَها* َمَنْ عَلاَ زَلَقاً عَنْ غِرَّةٍ زَلَجَا وليت شعري كيف صرنا نتلقى دروس الغرب في التخطيط والإدارة فكنا كما قال القائل :* كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماءُ فوق ظهورها محمولُ وما ذاك- في ظني - إلا من الضعف الذي انتاب الولاء والانتماء أومن الخواء الذي ألمّ بل نخر في ارتباطنا بالجذور .*
المعلم الذي نريد... قدوة في المظهر، والألفاظ تتقاطر على لسانه عبارات المحبة والتقدير والاحترام فيشعر بدفئها أبناؤه الطلاب، فعبارة تتضمن دعوة خرجت من القلب، وتلك نصيحة سبقتها مشاعر المحبة .*
عندما يتعالم الأستاذ بهذه النفسية يشعر بقيمة ابدل الكلمة والثمار التي يجنيها، وسيجد الابتسامةَ على محيا الطلاب، والنتائجِ على سلوكياتهم، بل والمجتمع عموما.*
* * * * * منــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ قــــــــــول*