الاتّساق والانسجام في قصيدة "مدينة بلا مطر"
لبدر شاكر السياب
1- الاتّساق والانسجام (مصطلحانِ من مصطلحات لسانيات النص، يدلاّن على معنيين مُختلِفَيْن بل مُتقابِلَيْن :
فالاتِّساقُ (Cohesion) صفةٌ من صفاتِ النّصّ المُتَماسِكِ من حيثُ الصّياغة، أو مظهرٌ من مظاهرِ "نحويّة النّصّ" أمّا الانسجام (Coherence) فهو تماسُك النّصّ وانسجامُه من حيث نقل المعلومات والمضامين، أو هو مظهر من مظاهر "مقبولية النّصّ"
ودراسةُ الاتّساق مفهوم من مفاهيم لسانيات النّصّ يُحقّقُ للنصّ نصّيّتَه أو شروطَ صياغَتِه اللّفظيّة (إحالات على المرجع بواسطة الضّمائر والإشارات، حروف المعاني الرّابطة، تحقيق المطابقة بين الكلم )، أمّا الانسجام فهو إطارٌ لعالَم النّصّ الدّاخليّ وما يُحيلُ عليه من مراجع
2- بدرشاكر السياب رائد من رواد حركة تطور الشعر العربي؛ فشعره يفصل بين مرحلتين : الشعر المحافظ على عمود الشعر ، والشّعر المتحرّر من العمود لفائدة التفعيلة
ويواكبُ حركةَ التّجديد في شكل القصيدةِ حركةُ مُقابِلَةٌ هي التغيير والتجديد في مضامين هذا الشّعر؛ إنها النظرة الواقعية الى الحياة والمجتمع
هاتان حركتان متكاملتان: أولاهما تجديد في قالب القصيدة والثانية تجديد في عالم القصيدة الذي تصفه أو تحيل عليه : وهنا يكمن الاتّساق والانسجام :
فمن حيث الاتّساق نلاحظ أنّ شعر التّفعيلة قد سبكَ القصيدةَ الحديثةَ في بناء واحد متماسكٍ
ومن حيث الانسجام عبّر الشّعر الحديث عن هموم العصر كما يراها الشاعر
الشّعورُ بالغربة ومصارعةُ الموت، مضامين تنتظم شعر السّيّاب :
نُلاحِظ في مضمون الشعر الحديث، على وجه العموم، وشعر السياب على وجه الخصوص بروز نزعة واقعية من خلال ظاهرتين مهيمنتيْنِ على شعره عموما هما ظاهرة الشعور بالغربة, وظاهرة الحياة والموت . ففي الظّاهرتينِ تجلّياتٌ لحياة السياب الشخصية المثقلَة بالمعاناة والآلام, وقد كانت آلام الشّاعر وأحزانُه المتواصلة تعود الى الإحساس بوطأة الفقر والظلم الذي وقع على كاهل الناس في مجتمعه، وتعود إلى معاناته الخاصّة عندما عانى مرضا طويلا أسْلَمَه إلى الموت .نزاع مستمر بين التمزّق والتطوّر ، وقد تجسّد هذا النّزاع في قصائد كثيرة مثل مدينة السندباد , مدينة السراب , قافلة الضياع , مدينة بلا مطر التي بين أيدينا.
أما غربة الشّاعر فتتجلّى في سأمه من العيش في المدينة , وأفصح عن أبعاد كرهه للمدينة، من هذِه الأبعادالبعد الاجتماعي , في قصيدة "عرس في القرية" , والبعد الطّبقي في قصيدة "قافلة الضياع" , والبعد السياسي في "رسالة من مقبرة", وهكذا تتحول المدينة الى مقبرة كبيرة تعصر قلب الشّاعر . وغربة السياب المتمثّلة في احساسه بالمدينة انعكاس للغربة الداخلية التي أصبحت شعورا باليأس
3- السياب شاعر يحب قريته ,الجميلة التي تبعث في نفسه الطمأنينة.. وتتثير مشاعر رومنسية. لكن التحولات الصحية والاجتماعية والسياسيةأيقظته من خيالاته, فاستيقظ على دوي نكبة عام 1948، اغتصاب فلسطين وثورة العراقيين على الحكومة ضدّ توقيع معاهدة جائرة مع بريطانيا.. فولت الرومانسية أدبارها...
إن كل من يعود الى قصائد: "أنشودة المطر" و "مدينة بلا مطر" و "مرحى غيلان " و"النهر والموت " و" تموز جيكور" و"جيكور والمدينة" ، و "نهر الرماد" و"البعث والرماد" و"الذى لا يأتي "
يثبت له بما لا يدَع مجالا للشّكّ توظيف الشّاعر للأسطورة والرّمز ، فالرّمز والأسطورة ، كما يبدو من قصيدة "مدينة بلا مطر" من بين الرّموز والأساطير التي حشدها في قصائد أخرى لتضييق الهوّة بين المشاعر الإنسانية على اختلافها وتباعدها
الأسطورة والرّمز (بابل، عشتار) مكوِّن من مكوِّناتِ البناء الخارجي المتّسِق في هذِه القصيدة ، و أداة من أدوات الفن في بناء الشعر،
وهي من حيث الدّلالات الشّعرية العميقة التي تحقق الانسجام: ملاذ آمن من الخيبة وفواجع الواقع السياسي والاجتماعي والمَرَضي
عندنا دلالات متعدّدة في هذه القصيدة : دلالة المكان (مدينتنا بدروبها ودورها الطينيّة وعريشها...) دلالة الزمن (ليل، غروب، آذار...) ، الدّلالة السّياسيّة : دلالة الجفاف السياسي والقَرَف الاجتماعي (سحائب مرعدات مبرقات دون إمطار)
هذه دلالات متماسكة تؤدّي إلى درجة عالية من الانسجام، وعبَّرَ عنها الشّاعر بدوالَّ وقيمٍ لفظية تحقق درجة عالية من التّماسُك والاتِّساق ف يالصيغةِ التّعبيريّة
منقول للفائدة