لفروق الفردية بين المتعلمين
د. محمد بن عبدالله الدويش
[b[size=18]]الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
نقف وإياكم في هذه الحلقة من حلقات هذا البرنامج عند موقف آخر من المواقف التربويّة للمربي الأول صلى الله عليه وسلم.
ويتواصل حديثنا في هذه الحلقة مع موقف تربوي تناولناه في الحلقة الماضية، ألا وهو موقف أبي رفاعة –رضي الله عنه- قال: "انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب قال: فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه! قال: فأقبل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها". (رواه مسلم (876).
وقد تناولنا في الحلقة الماضية اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالمتعلم، وتحدثنا عن جوانب الاهتمام بأولادنا وطلابنا. واليوم نقف مع جانب آخر في هذا الحديث، ألا وهو مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين.
وهو أمر يحتاجه من يتصل بالناس أيّا كان هدف اتصاله بهم، تعليماً أو دعوة أو تربية وتوجيهاً.
إنّ الناس يختلفون ويتفاوتون فيما بينهم، يتفاوتون في قدراتهم وطبائعهم واستعدادهم، قال معاوية -رضي الله عنه - لصعصعة بن صوحان: "صف لي الناس، فقال: خلق الناس أخيافاً: فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة فيما بين ذلك يكدرون الماء، ويغلون السعر، ويضيقون الطريق".
قال أبو علي: الرجرجة: شرار الناس ورذالهم؛ وأصل الرجرجة: الماء الذي قد خالطه لعاب، وجمعه رجارج. (الأمالي. لأبي علي القالي1/ 122).
وكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل منهم قد برز في ميدان، وقد دلّ على ذلك الحديث: "أرحم أمتي بأمتي أبوبكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبوعبيدة". (رواه أجمد 12493، 13578، والترمذي 3790، 3791 ، وابن ماجة 155).
وقد سئل علي -رضي الله عنه- عن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- فبيّن هذا التفاوت، فعن أبي البختري قال: "أتينا علياً فسألناه عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: عن أيهم تسألوني؟ قالوا: عبدالله بن مسعود؟! قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى به علماً. قلنا: أبي موسى؟! قال: صبغ في العلم صبغة ثم خرج منه. قلنا: حذيفة؟! قال: أعلم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بالمنافقين. قالوا: سلمان؟! قال: أدرك العلم الأول والعلم الآخر، بحر لا يُدرك قعره، وهو منّا أهل البيت. قالوا: أبي ذر؟! قال: وعى علماً عجز عنه. فسئل عن نفسه، فقال: كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتديت". (سير أعلام النبلاء 2/ 388).
وها هو خالد بن الوليد سيف الله -رضي الله عنه- يروي عنه قيس ابن أبى حازم أنّه قال: "لقد منعني كثيراً من القراءة الجهادُ في سبيل الله ". (رواه أبو يعلى في مسنده 7188، وابن أبي شيبة في مصنفه 19420. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 350: رجاله رجال الصحيح).
وقد كان السلف -رحمهم الله- يتفاوتون فيما بينهم، قال ابن المبارك: "رأيت أعبد الناس عبدالعزيز بن أبي رواد، وأورع الناس الفضيل بن عياض، وأعلم الناس سفيان الثوري، وأفقه الناس أبوحنيفة، ما رأيت في الفقه مثله". وقال أبو عبيد: "انتهى العلم إلى أربعة: أبوبكر ابن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له". (سير أعلام النبلاء 8/ 424).
وبناءاً على هذا التفاوت والتباين ينبغي على الآباء والأمهات توجيه أولادهم للمجالات التي تلائمهم، فإن من الآباء والأمهات من يجعل الخيار الأول والأخير أمام أولادهم هو تفوقهم في ميادين دراسية معينة، وربما كانت لاتتلاءم معهم، فتنقطع أنفاسهم دون إدراكها ولا ينتفعون، ويحرمونهم من الاتجاه لما يحسنون، وقد نبّه الحافظ ابن القيم من يربي ابنه لهذا المعنى فقال: "ومما ينبغي أن يتعمد حال الصبي ، وما هو مستعدٌ له من الأعمال، ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوقٌ له، فلا يحمله على غيره، ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعدٌ له لم يفلح، وفاته ما هو مهيأ له". (تحفة المودود 243).
والمعلم يحتاج هذا المعنى في حجرة الدراسة وفي حلقته، فالطلاب يختلفون في إدراكهم وذكائهم، فما يكفي زيداً لا يكفي عمراً، وقد نبّه السلف على ذلك. قال النووي:"وينبغي أن يكون باذلاً وسعه في تفهيمهم، وتقريب الفائدة إلى أذهانهم، حريصاً على هدايتهم، ويفهم كل واحد بحسب فهمه وحفظه، فلا يعطيه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عما يحتمله بلامشقة، ويخاطب كل واحدٍ على قدر درجته، وبحسب فهمه وهمته، فيكتفي بالإشارة لمن يفهمها فهماً محققاً، ويوضح العبارة لغيره ويكررها لمن لا يحفظها إلا بتكرار، ويذكر الأحكام موضحة بالأمثلة من غير دليل لمن لا ينحفظ له الدليل، فإن جهل دليل بعضها ذكره له". أ. هـ، (المجموع شرح المهذب 1/31).
وكان السلف ربما خصّوا بعض الطلاب بالتعليم والتحديث دون غيره. قال أبو عاصم: "ربما رأيت سفيان يجذب الرجل من وسط الحلقة فيحدثه بعشرين حديثاً والناس قعود، قالوا: لعله كان ضعيفاً. قال: لا". (أخرجه الرامهرمزي في المحدث الفاصل 785).
ويتطلب الأمر: تنويع أساليب التعليم ووسائله فإن تنويع الأساليب والوسائل يقود في النهاية إلى أن يهيء بيئة مهيئة لمعظم الطلاب لأن يتعلموا بشكل صحيح فالنمط الواحد والأسلوب الواحد لايتلائم إلا مع فئة واحدة من المتعلمين وحين ما ينوع المعلم والداعية والمربي أساليبه ووسائله ستتسع مجالات ودائرة استيعاب التي تستوعب معظم هذه الفروق .
اختلاف أساليبهم في االتعلم: الذكاءات المتعددة، لقد انتهت اليوم فرضية تقسيم الناس إلى غبي وذكي الذكاء يتعدد من الناس من يكون ذكائه في المجال اللغوى ومنهم من يكون ذكائه في المجال البصري و منه من يكون ذكائه في هذا المجال ومنهم من يكون في ذاك وحين اذن اكتشاف المعلم للمجال البارز لدى المتعلم يقوده إلى التركيز على هذا المجال كما أن تنويع الوسائل والأساليب كما اشرنا قبل قليل يقود في النهاية إلى أن تستوعب مثل هذه المجالات.
مما يختلف فيه ايضاً المتعلمون القدرة على التركيز الميل إلى علم من العلوم وهكذا هى جوانب مجالات عديدة يتفاوتون فيها ويختلفون .
يضيق المقام والقدر المتاح لنا في هذه الحلقة عن استيعابها وحسبنا أن نشير إلى شئ من ذلك .
أسال الله أن يوفقنا
[/b][/size]