علوم الطبيعة وعلوم الفكر
من حق علوم الفكر أن تحدد بنفسها منهجها بحسب موضوعها. فعلى العلوم أن تنطلق من أعم مفاهيم المنهجية ، وتسعى إلى تطبيقها على مواضيعها الخاصة فتصل بذلك إلى أن تنشئ في ميدانها المخصوص مناهج ومبادئ أكثر دقة على غرار ما حصل بالنسبة إلى علوم الطبيعة. وإننا لا نبين أننا التلاميذ الحقيقيون لكبار العلماء إن نحن اكتفينا بأخذ المناهج التي توصلوا إليها ، ونقلناها نقلا إلى ميداننا ، وإنما نكون تلاميذهم بحق حين نكيف بحثنا مع طبيعة مواضيعه فنتصرف إزاء علمنا تصرفهم إزاء علمهم . إن التحكم في الطبيعة يكون بالامتثال لها. وأول ما يميز علوم الفكر عن علوم الطبيعة أن علوم الطبيعة موضوعها وقائع تبدو للوعي كما لو كانت ظواهر بعضها بمعزل عن بعض من الخارج ، والحال أنها تبدو لنا من الداخل واقعا ومجموعة حية أصلا. والحاصل من هذا أنه لا يوجد في العلوم الفيزيائيّة والطبيعية مجموع منسجم للطبيعة إلا بفضل استدلالات تكمل معطيات التجربة بواسطة منظومة من الفرضيات ؛ أما في علوم الفكر فان مجموع الحياة النفسية يمثل في كل مكان معطى أوليا وأساسيا. فالطبيعة نفسرها، والحياة النفسية نفهمها.
ذلك أن عمليات الاكتساب و مختلف الطرائق التي تترابط بواسطتها الوظائف – وهي العناصر الخاصة بالحياة الذهنيّة- فتشكل كلا ، تمدنا بها أيضا التجربة الداخلية. وهنا نجد أن المجموع المعيش هو الشيء الأولي ، أما التمييز بين الأجزاء التي يتكون منها فلا يأتي إلا في المرتبة الثانية. يترتب على ذلك أن المناهج التي نعتمدها لدراسة الحياة الفكرية و التاريخ و المجتمع مختلفة أشد الاختلاف عن المناهج التي أدت إلى معرفة الطبيعة.
دلتاي" أفكار في علم نفس وصفي وتحليلي"
***
العلوم الإنسانية
إن وضعية العلوم الإنسانية لأشد تعقيدا, لكون الذات التي تلاحظ أو تجرب على نفسها أو على الذوات الأخرى المماثلة لها قد يلحقها تغيير مصدره الظواهر التي تتم ملاحظتها من جهة, كما يمكن أن تكون الذات من جهة أخرى مصدر تغييرات في مجرى هذه الظواهر بل حتى في طبيعتها.
فنظرا لما تؤدي إليه هذه الأوضاع من تداخل بين الذات والموضوع تنشأ في العلوم الإنسانية صعوبات إضافية بالقياس إلى ما هو عليه الأمر في العلوم الطبيعية التي أصبح من المستطاع فيها, علي وجه العموم الفصل بين الذات والموضوع.
وبعبارة أخرى إن عملية إزاحة التمركز الذاتي التي هي ضرورية لتحقيق الموضوعية تصير شديدة الصعوبة عندما يتعلق الأمر بموضوع متكون من ذوات وذلك لسببين قاطعين إلى حد ما أولهما أن الحد الفاصل بين الذات المتمركزة حول نفسها وبين الذات العارفة يكون أقل وضوحا كلما زادت الملاحظة توغلا في ظواهر يجب على الملاحظ أن يدرسها من الخارج ثانيهما يكمن في أن الملاحظ يكون أكثر ميلا إلى الاعتقاد بأنه يعرف الوقائع حدسيا إذ هو أقل إحساسا بضرورة التقنيات الموضوعية لأنه أكثر"انخراطا " في الوقائع التي يهتم بها, و لأنه يضفي عليها قيما معينة.
وينتج عن هذا أن موضوع العلوم الإنسانية الذي هو ذات يختلف, إذا, عن الأجسام والقوى العمياء التي يتكون منها موضوع العلوم الفيزيائية, ويختلف حتى عن الموضوعات الذوات التي تدرسها البيولوجيا... ومن الواضح أن هذا الاختلاف يرجع إلى درجة من الوعي ( تتمتع به الذوات الإنسانية )
جان بياجي : ابستملوجيا علوم الإنسان ص 67
***
فوكـــــــــــو."الكلمات و الأشياء"
" للعلوم الإنسانية(...) مشروع مؤجل نسبيا، ولكنه قار، يقضي(...) باستعمال صورية رياضية ما. (ثم) هي تعمل بحسب نماذج أو مفاهيم تستعيرها من البيولوجيا، و من علم الاقتصاد و من علوم اللغة. و أخيرا فهي تتجه إلى الإنسان في نمط وجوده الذي تسعى الفلسفة إلى التفكير فيه على مستوى التناهي الجذري، في حين تريد هي استطلاع تجلياته التجريبية. وقد يكون انتشار العلوم الإنسانية هذا الانتشار الضبابي داخل فضاء ثلاثي الأبعاد هو الذي يجعل تحديد موقعها على هذا القدر من الصعوبة، وهو الذي يضفي على تموقعها في الحقل الإبستيمولوجي طابعا متزعزعا لا يستقر (...) من السهل الظن أن الإنسان قد تحرر من ذاته منذ أن اكتشف أنه ليس في مركز الخلقية، ولا في مركز الكون وربما أنه ليس حتى في قمة الحياة أو غاية القصوى،ولكن، إذا لم الإنسان سيدا في مملكة الكون, وإذا لم يعد سلطان الوجود، فإن" العلوم الإنسانية تكون وسائط خطرة في فضاء المعرفة. والحقيقة أن هذه الوضعية نفسها تحكم عليها بعدم استقرار جوهري. إن ما يفسر عسر وضع "العلوم الإنسانية"، و هشاشتها وعدم يقينها كعلوم، ألفتها الخطرة مع الفلسفة، واعتمادها الغامض على مجالات معرفية أخرى، وطابعها كعلوم هي دوما علوم ثانية بالنظر إلى غيرها، وهي دوما مشتقة من غيرها، ولكن كذلك ادعاءها الكلية، (إن ما يفسر كل ذلك) ليس هو ـــ كما يقال غالبا ـــ كثافة موضوعها القصوى، ولا هو منزلة الميتافيزيقية لهذا الإنسان الذي تحدثت عنه، ولا هو تعاليه الذي لا يمّحي، وإنما هو بالتأكيد تعقد التشكيل الإبستيمولوجي الذي تجد العلوم الإنسانية نفسها ضمنة، وارتباطها الدائم بالأبعاد الثلاثة، ذلك الارتباط الذي يعطيها فضاءها.
ميشـــال فــــوكــــو: الكلمات و الأشيـــــــــــــــاء
***
إن التصور الذي يعتبر العنصر النفسي ذاته لاشعوريا مكن علم النفس من أن يصبح فرعا من العلوم الطبيعية، شبيها بكل الفروع الأخرى. فالظواهر التي يدرسها علم النفس تستعصي على المعرفة شانها في ذلك شان الظواهر التي تدرسها العلوم الأخرى كالكيمياء أو الفيزياء، لكن بالإمكان إيجاد القوانين التي تحكم هذه الظواهر وملاحظة علاقاتها المتبادلة وارتباط بعضها ببعض على نطاق واسع ودون نقصان. ذلك هو ما نسميه اكتساب "فهم" لهذا الصنف من الظواهر الطبيعية، ويستلزم ذلك إنشاء فرضيات ومفاهيم جديدة،غير أنه لا ينبغي اعتبار هذه الفرضيات وتلك المفاهيم دليلا على الحرج الذي نحن فيه بل هي إثراء لمعارفنا. ويحسن بنا أن نأخذ مأخذ فرضيات العمل المستعملة عادة في علوم طبيعية أخرى وأن نسند لها نفس القيمة التقريبية. وتستمد هذه الفرضيات من التجارب المتراكمة والمنتقاة ما يمكنها من أن تعدل وتفسر وتحدد تحديد متزايدا.
فكيف لنا أن نستغرب إذن أن تظل المفاهيم الأساسية للعلم الجديد (مثل الدافع والطاقة العصبية الخ..) ومبادئه ذاتها، مدة طويلة، على هذا القدر من عدم التحديد كما هو الشأن بالنسبة إلى مفاهيم علوم أقدم منها (القوة، الكتلة، الجذب الخ...)؟
سغموند فرويد: "مختصر التحليل النفسي."
***
هناك انطباع سائد أنه بمجرد أن قام الإنسان كتشكيل وضعي في حيز المعرفة, كان لابد وأن يزول امتياز الفكر الذي يفكر في ذاته, وكان أن تمكن, ثمة, فكر موضوعي من أن يغطي الإنسان بأكمله وأن يكشف فيه ما لم يكن ليصل إليه فكره أو حتى وعيه, أوليات غامضة, مساحات مظلمة... أطلق عليها مباشرة أو مواربة اسم اللاوعي. أو ليس اللاوعي ما يقع حتما تحت الفكر العلمي الذي يحمله الإنسان في ذاته عندما يكف عن تذكر ذاته ؟
في الواقع لم يكن الوعي, وبنوع عام كل أشكال اللامفكر المكافأة المعطاة لمعرفة وضعية للإنسان. فالإنسان واللامفكر هما علي المستوى الأركيلوجي متعامدان. لم يستطع الإنسان أن يكون موضوعا في الإبستمية دون أن يكشف الفكر في الوقت نفسه في داخله و خارجه معا. في هوامشه و صميم نسيجه بالذات جانب مظلم وعمقا يبدو جامدا يغرق فيه, ولا مفكرا يحتويه الفكر بكامله, و لكنه مع ذلك يقع في الوقت نفسه في شراكه. لا يسكن اللامفكر تحت أي اسم كان بل هو بالنسبة للإنسان هو الآخر: الآخر الأخوي أو التوأم, المولود لا منه و لا فيه بل هو إلى جانبه في الوقت ذاته هو في تجدد ممثل لذاته في ازدواجية لا تنقض إن تلك النسخة المظلمة التي يحلو اعتبارها منطقة لجية من طبيعة الإنسان أو قلعة محصنة من تاريخه ترتبط بطريقة مختلفة تماما فهي خارجية و ضرورية في آن بالنسبة إليه. وعلي أية حال قام اللامفكر بالنسبة للإنسان مقام اللحن المصاحب له الصامت وغير المنقطع, وبما أنه ليس سوى نظيرا ملحاحا, لم يفكر به يوما بشكل مستقل.
ميشال فوكو: الكلمات و الأشياء
***
اصطدمت النزعة العلمية والنزعة الوضعية اللتان كانتا تدعيان معرفة الواقع معرفة موضوعية بصعوبات كبيرة في مجال جديد هو مجال العلوم الإنسانية خلال القرن الأخير وكان علم النفس هو الأول من بين هذه العلوم يتمتع بالمركز المرموق لأنه يبلغ إلى موضوعه بصورة مباشرة ودون أية وساطة بفضل الاستبطان. بيد أن تفحص هذه الميزة تفحصا نقديا ما لبث أن أحالها إلى عيب يتطلب إعادة النظر إذ أننا لا نستطيع أن ندعي بشيء من الموضوعية ما دمنا خصوما و حكاما في نفس الوقت و ما دام أحدنا لا يمكن أن يصبح موضوعا لذاته. إذا فالموضوعية مستحيلة في علم النفس... فجميع العلوم الإنسانية باعتبارها تتخذ الإنسان موضوعا لها بالذات تصطدم بصعوبات أساسية هي ما انتبه إليه علماء النفس منذ البدء. إن العالم في مجال العلوم الإنسانية يصبح هو نفسه جزءا من مواد دراسته. و يؤثر بصورة لا شعورية في معطيات الملاحظة فهو عندما يبدأ بدراسة البواعث الإنسانية, تتدخل بواعثه الخاصة في الأمر و تريه الأشياء تحت ضوء هو ضوءه الخاص.
بول فلكييه : هذه هي الديالكتيكية
***
لماذا تتصور أن العمليات النفسية التي تدور في ذهنك لا تسري عليها القوانين عينها التي تقر بسريانها على العمليات التي تدور في أذهان الآخرين ؟ فمتى وصلت إلى درجة معينة في ضبط نفسك وتوفرت لك المعارف الملائمة فلن تتأثر تأويلاتك بأوضاعك الشخصية الخاصة, بل ستصيب عين الحقيقة. أنا لا أزعم أن شخصية المحلل لا دور لها في هذا الجانب من التحليل. فرهافة الأذن, ضرورية لسماع لغة المكبوت اللاشعوري, وهي غير متاحة للناس جميعا بدرجة متساوية. وأول واجب يقع هنا على عاتق المحلل أن يكون قد خضع هو نفسه لتحليل معمق لكي يتأتى له أن يتلقى بلا حيز و بلا أحكام مسبقة العناصر التحليلية التي يمده بها الآخرون. على أن تبقى بعد ذلك " المعادلة الشخصية " كما يقال حتى في الرصد الفلكي, ولسوف يلعب هذا العامل الفردي دورا في التحليل النفسي أكبر مما يلعبه في أي مجال آخر. إن إنسانا لا سويا يمكن أن يصير فيزيائيا ممتازا, لكن شذوذه سيحول بينه – في ما إذا كان محللا – وبين أن يرى صور الحياة النفسية صحيحة غير مشوهة وبما أنه من المتعذر إقناع شخص من الأشخاص بأنه شاذ فإن الإجماع في موضوع علم النفس أمر يعسر كل العسر الوصول إليه.... غير أني أصارحك بأني أكثر تفاؤلا. فقد دلتنا خبرتنا أنه من الممكن الوصول حتى في علم النفس إلى قدر طيب من الاتفاق. إن لكل ميدان من ميادين البحث صعابه الخاصة التي لا مناص من العمل على تذليلها.
فرويد: مسائل في مزاول التحليل النفسيص: 59 / 60
***
من السهل الظن أن الإنسان قد تحرر من ذاته منذ أن اكتشف أنه ليس في مركز الخليقة, و لا في مركز الكون و ربما أنه ليس حتى في قمة الحياة أو غايتها القصوى. ولكن إذا لم يعد الإنسان سيدا في مملكة الكون وإذا لم يعد سلطان الوجود فإن العلوم الإنسانية تكون وسائط خطيرة في فضاء المعرفة. والحقيقة أن هذه الوضعية نفسها تحكم عليها بعدم استقرار جوهري. إن ما يفسر عسر وضع العلوم الإنسانية وهشاشتها وعدم يقينيتها كعلوم، وألفتها الخطرة مع الفلسفة واعتمادها الغامض على مجالات معرفية أخرى و طابعها كعلوم هي دوما علوم ثانية بالنظر إلى غيرها وهي دوما مشتقة من غيرها و لكن كذلك ادعاءها الكلية ( إن ما يفسر كل ذلك ) ليس هو كما يقال غالبا كثافة موضوعها القصوى ولا هو المنزلة الميتافيزيقية لهذا الإنسان الذي تتحدث عنه ولا هو تعاليه الذي لا يمحى وإنما هو بالتأكيد تعقد التشكيل الابستملوجي الذي تجد العلوم الإنسانية نفسها ضمنه.
ميشال فوكو: الكلمات و الأشياء
***
العامل المحدّد للتّاريخ
إنّ العامل المحدّد للتّاريخ، حسب التّصوّر المادّي له، هو، في نهاية الأمر، إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الواقعيّة. ولم نقرّ، لا أنا ولا ماركس، بشيء أكثر من ذلك. فإذا تعسّف أحدهم على هذ الإقرار ليقوّله أنّ العامل الإقتصادي هو المحدّد الوحيد فإنّه يحوّله إلى جملة مجرّدة ولا معقولة. إنّ الوضع الإقتصادي هوّ الأساس لكنّ مختلف عناصر البنية الفوقيّة – الأشكال السّياسيّة للصّراع الطّبقي ونتائجها- والمؤسّسات المنشأة عند كسب المعركة من قبل الطّبقة المنتصرة، ..إلخ. – الأشكال القضائيّة، وحتّى مظاهر كلّ تلك النّزاعات الواقعيّة في ذهن المشاركين فيها، والنّظريّات السّياسيّة والقضائيّة والفلسفيّة والتّصوّرات الدّينيّة وتطوّراتها اللاّحقة لتكوّن أنساقا دوغمائيّة. تمارس أيضا فعلها على مسار الصّراعات التّاريخيّة وتحدّد في كثير من الحالات صورة هذه الصّراعات أكثر من غيرها. إنّ هنالك فعل وردّ فعل لكلّ هذه العوامل التي بداخلها تشقّ الحركة الإقتصاديّة طريقها كضرورة داخل مجموعة لانهائيّة من الصّدف (أي أشياء أو أحداث لها علاقات داخليّة فيما بينها بعيدة أو صعبة التّحديد بشكل يمكن معه أن نعتبرها غير موجودة وأن نهملها
إنّنا نصنع تاريخنا بأنفسنا لكنّ أولا بالإعتماد على منطلقات وفي ظروف محدّدة جيّدا. إنّ الظّروف الإقتصاديّة بين جميع الظّروف، هيّ العوامل المحدّدة في نهاية الأمر. لكنّ الظّروف السّياسيّة، إلخ. بل حتّى التّقاليد التي تسكن أذهان النّاس تلعب هيّ أيضا دورا رغم أنّه ليس بالدّور الفاصل.
لكن ثانيا، يتشكّل التّاريخ بشكل يجعل النّتيجة النّهائيّة تنتج دائما من صراعات عدد كبير من الإرادات الفرديّة، هذه الإرادات التي تتشكّل كلّ واحدة منها كما هيّ بجمهرة من الظّروف الجزئيّة. هناك إذن عدد لا حصر له من القوى التي تعاكس كلّ واحدة منها الأخرى، عدد لا نهائي من متوازيات الأضلاع للقوى، منها تصدر نتيجة – الحدث التّاريخي- يمكن أن ينظر إليها، بدورها كنتيجة لقوّة تفعل ككلّ، بشكل لا واع وأعمى. ذلك أنّ ما يريده كلّ فرد يُمنع من قبل فرد آخر وما ينتج عن ذلك هو أمر لم يرده أيّ كان. بهذه الطريقة يسير التّاريخ إلى يومنا هذا على شاكلة مسار للطّبيعة وهو خاضع أيضا، إجمالا، إلى نفس قوانين الحركة.
انجلزمن: رسالة إلى جوزيف بلوخ