الحقيقة
ما معني إذن البحث عن الحقيقة ؟...
البحث عن الحقيقة – لنتكلم ببساطة شديدة – هو ذاته مشدود بين قطبين: ثمة من جهة وضعية شخصية و ثمة من جهة أخرى رؤية للوجود. فمن جهة ثمة شيء ما يجب علي أن أكشفه بنفسي, شيء لا أحد غيري له مهمة أن يكشفه. إن كان لوجودي معنى ولم يكن عبثيا، فإن لي موقعا في الوجود هو دعوة لأن أطرح سؤالا لا يمكن لأحد أن يطرحه عوضا عني. إن محدودية وضعي و معلوماتي و لقاءاتي ترسم بعد المنظور المتناهي لاستعدادي للحقيقة.
ومن جهة أخرى أن أبحث عن الحقيقة يعني أن أتطلع إلى أن أقول قولا صالحا للكل, قولا يرتفع على أساس وضعيتي إلى مقام القول الكلي, لا أريد أن أبتدع وأن أقول ما يحلو لي ولكن أريد أن أقول ما هو كائن. فمن صميم وضعيتي أتطلع إلىىأن أكون مرتبطا بالوجود. أن يتعقّل الوجود ذاته في نفسي، ذاك هو مرادي من الحقيقة. وهكذا فإن البحث عن الحقيقة مشدود بين " تناهي " تساؤلي و" انفتاح " الوجود.
بول ريكور : التاريخ و الحقيقة 54-55
***
المعرفة
يمكن أن نطلق على مثل هذه الطريقة التي تقوم على إخضاع وقائع العقل للفحص وللتأنيب اسم رقابة العقل و مما لا شك فيه أن هذه الرقابة تقود حتما إلي الشك إزاء كل استعمال مفارق للمبادئ. لكن ذلك ليس سوى الخطوة الثانية التي ما تزال بعيدة عن إنجاز العمل. والخطوة الأولى في قضايا العقل خطوة الطفولة وهي دغمائية والخطوة الثانية التي تحدثنا عنها هي ريبية وتشهد بتأني الحاكمة التي هذبتها التجربة والحال أنه يلزم بعد خطوة ثالثة ويعود أمر القيام بها إلى الحاكمة الناضجة والراشدة التي أساسها شعارات ثابتة وكليتها لا غبار عليها والتي تقوم بتفحص لا واقع العقل بل العقل نفسه في قدرته و تمكنه من بلوغ معارف قبلية محضة فالريبية مرحلة يرتاح فيها العقل البشري وفيها يمكنه أن يتذكر الرحلة الدغمائية التي خرج منها للتو، وأن يرسم مخطط البلاد التي يكون فيها من أجل أن يمكنه بعد الآن أن يختار طريقه بأمان أكبر. لكنها ليست موقعا سكنيا للإقامة فيه لأن هذا الموقع لا يمكن أن يعثر عليه إلا بتيقن تام: إما بمعرفة الموضوعات نفسها وإما بالحدود التي تنحصر ضمنها كل معرفتها الماضية.
كــــــــــــانط: نقد العقل المــــحض
***
المعرفة
إن العادة والتقليد هما اللذان يقنعاننا أكثر من أية معرفة يقينية. و إنه على الرغم من ذلك لا يمثل تعدد الأصوات حجة ذات بال بشأن الحقائق التي يصعب اكتشافها قليلا لأنه من الأقرب إلى الاحتمال أن يعثر عليها رجل وحيد من أن يعثر عليها شعب بأسره ولما لم أستطع اختيار شخص تكون آراؤه في نظري أفضل من آراء غيره وجدتني مجبرا على السعي إلي قيادة نفسي بنفسي غير أني كمثل رجل يمشي وحيدا في الظلمات قررت أن أسير ببطء وأن أتسلح بجانب من التحري إزاء كل الأشياء بحيث أحتمي من السقوط حتى وإن كنت لم أتقدم إلا قليلا جدا... وأن أبتعد تمام الابتعاد عن التسرع والظن وأن لا أشمل بأحكامي أكثر مما تقدم لفكري بقدر كاف من الوضوح و التميز.
ديكــــــــــــــــــارت: مقالة في الطريقة
***
الشك
العلامة الحقيقية للإرادة والسمة الأساسية لهذا التطور المكتمل الذي يؤهل الإنسان ليتأمل العالم من حوله وليكون جديرا بالسيادة والاستقلالية هي إمكانية الشك. أليس من المدهش أن نميز الإنسان المستنير والمثقف حقا بأحكام تجعله عرضة للشك ويعترف بجهله لا أن نميزه من خلال تلك الأحكام التي قد تبدو يقينية لا شك فيها. إن الجاهل نادرا ما يشك, والغبي يشك بدرجة أقل منه أما المجنون فلا يشك على الإطلاق. إن العالم سيكون مختلفا جدا على ما هو عليه لو أتقن أغلبية البشر ممارسة الشك. في هذه الحالة لن يكون البشر عبيدا لعاداتهم ولأحكامهم المسبقة التي يفرون إليها في أغلب الأحيان.... اليقين لا يمكن أن يكون مطلقا, إنه، وهذا ما وقع نسيانه، فعل وحالة إنسانية. ليس الفعل والحالة التي من خلالها يفهم الإنسان مباشرة ما لا يمكن معرفته مباشرة والمقصود بذلك الوقائع والقوانين..... لا وجود ليقين هناك فقط أناس على يقين.
شارل رونوفي: محاولة ثانية في النقد العام ص 365 /366