النقد و مقاييسه في عهد الرسول-ص-و عصر الخلافة الراشدة/ج.01
كاتب الموضوع
رسالة
سفير اللغة و الأدب عضو ممتاز
عدد الرسائل : 1085 العمر : 60 نقاط : 6208 تاريخ التسجيل : 29/07/2008
موضوع: النقد و مقاييسه في عهد الرسول-ص-و عصر الخلافة الراشدة/ج.01 الأحد 1 فبراير 2009 - 15:59
النقد الأدبي ومقاييسه خلال عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الخلافة الراشدة [الجزء الأول] للدكتور محمد عارف محمود حسن المدرس في كلية اللغة العربية - جامعة الأزهر
لا يستطيع أحد أن ينكر ما أحدثه الإسلام من ثورة شاملة في جميع نواحي الحياة وجوانبها: الدينية، والسياسية، والعقلية، والاجتماعية، والأخلاقية... وكانت الناحية العقلية - أو الفكرية - من الجوانب التي أثر فيها الإسلام تأثيرا بالغا، وهذا يعني أن اللغة العربية التي عبر بها الإسلام عن مبادئه ومعتقداته قد تأثرت تأثرا شديدا بهذا الدين الجديد، تأثرت به أسلوبا وموضوعا، أو لفظا ومعنى، وينسحب هذا التأثر على جميع الفنون والعلوم العربية، سواء أكانت شعرا، أم نثرا، أو لغة، أو نقدا... ويعنينا في هذا المقام أن نعرف الآثار التي أحدثها الإسلام في النقد الأدبي، وإلى أي مدى كان تأثر النقد به؟ وما الأسس والمقاييس التي سار عليها النقد في عصر صدر الإسلام؟. الرسول صلى الله عليه وسلم والنقد الأدبي: الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب هذا الدين الجديد، وحامل لواء الدعوة إليه، ولذا فمن المهم أن نتعرف على موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الشعر، وعلى موقفه من النقد الأدبي، ودوره فيه، وأن نستعرض جوانب من نقداته صلى الله عليه وسلم، لنتعرف من خلالها على الأسس والأصول التي كان بمقتضاها ينقد الرسول صلى الله عليه وسلم الشعر ويحكم عليه. على الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل الشعر ولم يعلمه الله إياه، إلا أنه لم يكن يتحرج منه ويتألم بالقدر الذي يظنه كثير من الناس، بل كان يعجب له ويطرب له إعجاب وطرب العربي صاحب الذوق السليم؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم عربي، وقد وهبه الله من صفاء الذهن، وسلامة الذوق، والقدرة على تمييز الحسن من القبيح من الكلام - ما فاق العرب جميعا، وهو ذوو بصر بصناعة الكلام، فيعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بشعر النابغة الجعدي، ويقول له: "لا يفضُض الله فاك"، وبلغ من استحسانه لقصيدة (بانت سعاد) أن صفح عن كعب وأعطاه بردته، واستمع إلى الخنساء واستزادها مما تقول، وتأثر تأثرا رقيقا لشعر قُتيلة بنت النضر.. . بل إن الأمر ليتعدى حد الإعجاب إلى الدعوة إليه؛ إذ دعا الرسول صلى الله عليه وسلم شعراء المسلمين إلى الدعوة إلى الإسلام، وإلى هجاء المشركين الذين وقفوا في وجه الدعوة الإسلامية، فالشعر ما زال سلاحا ماضيا من الأسلحة العربية التي لا يستغني عنها صاحب دعوة. إننا نعلم من التاريخ الإسلامي أن معركة كلامية دارت بين المسلمين والمشركين بجانب المعركة الحربية، وأن شعراء المسلمين كانوا يقفون في صف واحد أمام شعراء المشركين، كي يردوا عليهم افتراءاتهم وأباطيلهم التي كانوا يرمون بها الإسلام والمسلمين، لا سيما وأن الدعوة الإسلامية كانت بحاجة إلى من يدافع عنها ويرد عنها أعداها؛ لذلك لا نعجب إذ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعراء المسلمين من أمثال حسان بن ثابت ، وكعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة - إلى الدفاع عن الإسلام، وإلى الدعوة إليه، والإشادة بذكره وبمبادئه، وهجاء الكفر والكفار، ولا عجب - لكل هذا - إذ رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحسن الشعر، ويستنشده أصحابه ويمدح به، ويثيب عليه، بل ينقده ويصلح منه. أما دعوته صلى الله عليه وسلم شعراء المسلمين إلى الدعوة إلى الإسلام، وهجاء المشركين فيدل عليها ما روي أنه: لما كان عام الأحزاب، وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من يحمي أعراض المسلمين؟" فقال كعب بن مالك: أنا يا رسول الله! وقال عبد الله بن رواحة: أنا يا رسول الله! وقال حسان: أنا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: "نعم اهجهم أنا (يعني حسانا) فإنه سيعينك روح القدس". وروي أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت عبد الله بن رواحة، فقال وأحسن وأمرت كعب بن مالك فقال وأحسن، وأمرت حسن بن ثابت فشفى واشتفى" . وأما نقد الرسول الكريم للشعر، وإصلاحه منه، فسوف نورد الأمثلة والشواهد ما يدل عليه، ولكن قبل أن نورد هذه الأمثلة وتلك الشواهد ينبغي أن نقرر الأساس الذي قام عليه نقد الرسول للشعر، ليسهل بعد ذلك تطبيق هذا الأساس على ما سنورده من الأمثلة. المقاييس النقدية عند الرسول صلى الله عليه وسلم: ينبغي أن نلاحظ أن الرسول الكريم قد جاء بدين قويم يدعو إلى الفضائل، وينهى عن الرذائل، ويدعو - قبل ذلك وبعده - إلى عبادة إله واحد لا شريك له، وإذا لاحظنا ذلك علمنا أن المقاييس النقدية التي كان على أساسها يحكم الرسول على الشعر ويبني نقده وتوجيهه له - هي المقاييس والأسس الإسلامية التي جاء بها القرآن الكريم، من التسامح والتواضع والعدل والإحسان والخلق الحسن، وهي الأسس والمقاييس العربية التي أقرها الإسلام، كالكلام والشجاعة والنجدة وحفظ الجوار، وهذه الأسس هي أسس تتصل بالمعاني التي يجب يدور حولها الشعر، وإذا كان الرسول الكريم قد اتخذ من المعاني الإسلامية والتوجيهات الخلقية لهذا الدين مقياسا وأساسا ينقد الشعر على أساسه، ويصلح منه - فإنه صلى الله عليه وسلم قد اتخذ من القرآن الكريم - أيضا - أسلوبا ولفظا ونظما أساسا له ومنهاجا؛ لما امتاز به من سماحة في القول، وسلامة في التعبير، وطبعية في الأسلوب، وبعد عن التكلف والغلو. ولا نعجب إذ رأينا شعراء المسلمين يتمثلون القرآن الكريم في شعرهم - على اختلاف فنونه وأغراضه - يتمثلونه معنى وموضوعا، وأسلوبا ونظما، فيبنون فخرهم ومدحهم وهجاءهم.. على أسس من المبادئ الإسلامية، والقيم الأخلاقية الرفيعة التي استحدثها الدين الإسلامي، في هذا المجتمع الجديد، وعلى دعامة من الفضائل العربية التي أقرها الإسلام، كما كانوا يتخذون من بلاغة القرآن وسحر بيانه أساسا لنظمهم ودعامة لبيانهم... ولعلنا نلاحظ - من خلال ما تقدم - أن هناك أساسين أو مقياسين كان على أساسهما يحكم الرسول على الشعر وينقده، هذان الأساسان أو المقياسان هما: المقياس الديني الإسلامي، والمقياس البياني. - المقياس الديني الإسلامي: حينما نستعرض نقدات الرسول الكريم التي وجهها إلى الشعر والشعراء، نلاحظ أن الجوانب الدينية والمعاني الإسلامية كانت المحور الأساسي، لنقد الرسول الكريم، ولعلنا نستطيع أن نرى هذا المقياس بوضوح في النقدات الآتية: روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أصدق كلمةٍ قالها شاعر قول لبيد : ألا كل ما خلا باطل". ونلاحظ من هذا الحكم الذي حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم على قولة لبيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى فيها ما يتسق مع الروح الإسلامية، ويترجم عن وحي الإسلام. وحينما ينشده النابغة الجَعدي قصيدته التي مطلعها: خليلَيّ عُوجا ساعة وتهجَّرا ولُوما على ما أحدَث الدهر أو ذرا يُعجب الرسول هذا الشعر، وحينما يبلغ قوله: بلَغْنا السماءَ مجدُنا وجدودُنا وإنا لنرجو فوقَ ذلك مَظهرا يظهر الغضب في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول للنابغة: "إلى أين أبا ليلى؟" فقال: إلى الجنة، فيقول الرسول - وقد اطمأن إلى أنه حين عبّر بمجد جدوده المتطاول قد انتهى إلى التطلع في ظل الإسلام إلى ما هو أعظم -: "نعم إن شاء الله". ويمضي النابغة قائلا: ولا خير في حِلمٍ إذا لم تكن له بوادرُ تحمي صَفوَه أن يُكدَّرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليمٌ إذا ما أورد الأمر أصدرا فيزداد ارتياح الرسول الكريم إلى ما يسمع من وحي الروح الدينية، ومن التوجيه الخلقي الرشيد، ويقول له: "لا يَفضُض الله فاك" . ويطرب الرسول لشعر كعب بن زهير حين يمدحه بقصيدته التي مطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول وحين يبلغ كعب قوله: إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الهند مسلول يصلح له الرسول قوله هذا ويجعله: ................................ مهند من سيوف الله مسلول ونلمح من خلال هذا النقد النبوي ما انطوى عليه من تعديل وجّه كعبا إليه، حيث الرأي الصائب والقول السديد، وهو أن سيوف الله هي التي لا تفل، ولا تنبو ظباتها، ولا تحيد عن مواطن الحق، أما غيرها من السيوف فهي تفل وتنبو وتتلثم، وهذا معنى إسلامي جميل. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على كعب بن مالك، وهو ينشد، فلما رآه كعب بدا كأنه انقبض، فقال الرسول: "ما كنتم فيه؟" قال: كنت أنشد، فقال له: "أنشد"، فأنشد حتى أتى على قوله: مَجالِدنا عن جِذْمِنا كل فخمة فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "أيصح أن تقول: مَجالِدنا عن ديننا كل فخمة؟ قال: نعم، فقال له: "فهو أحسن". وواضح من هذا التوجيه الذي أسداه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كعب أن الجلاد والقتال إنما ينبغي أن يكون عن الدين، لا عن الأصل والنسب. 2- المقياس البياني: ونعني به قياس النتاج الأدبي، وتقويمه على أساس ما ينبغي أن يكون عليه النظم أو الكلام من جمال الأسلوب وروعة الأداء، وحسن النظم، وهو ما نسميه بالبيان والبلاغة، ويتصل بهذا المقياس، سلامة القول وسلامة التعبير والتزام الصدق، والبعد عن التكلف. وحينما نتصفح نقدات الرسول الآتية، نجدها قائمة على هذا الأساس واضحة خير ما يكون الوضوح. روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر، فقال عمرو: مانع لحوزته مطاع في عشيرته، فقال الزبرقان: أما إنه قد علم أكثر مما قال، لكنه حسدني شرفي، فقال عمرو: أما لئن قال ما قال فوالله ما علمته إلا ضيق العَطَن، زَمِن المروءة، لئيم الخال، حديث الغِنى، فلما رأى الإنكار في عيني الرسول بعد أن خالف قوله الآخر قوله الأول، قال: يا رسول الله! رضيتُ فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمتُ، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الثانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان سحرا، وإن من الشعر لحكمة". وقد انطلق حكم الرسول الكريم هذا على قول عمرو بن الأهتم لما يحويه هذا القول من أسلوب جميل وأداء رائع، يأسر النفس ويفعل بها فعل السحر، ولما فيه من حكمة ومعنى حسن. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحسن قول طرفة بن العبد ويتمثل به، وهو قوله: ستُبدي الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تُزوّد وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر في دية الجنين بغُرّة ، فقال أحدهم: يا رسول الله! أأدي من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، ومثل ذلك يُطل ، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم جانبا، واتجه إلى المتكلم، فأنكر عليه أسلوبه ومنطقه، وقال له: "أسجعا كسجع الكهان"؟!. وما أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القول إلا لأن صاحبه آثر السجع المتكلف وابتعد عن سهولة الأسلوب وسلاسته، وانطلاقا من مبدأ السلامة في التعبير والسلاسة في القول، والبعد عن التكلف والغلو والتشدق، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون ، المتشدقون ، المتفيهقون "، ويقول: "إياكم والتشادق"، ويقول: "إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها". ولم يقف نفقد الرسول للشعر والنثر عند حدّ النقد العلمي الذي أوردناه منه آنفا بعض الأمثلة، بل كان الرسول كثيرا ما يتعدى ذلك إلى لون آخر من النقد، وهو النقد التوجيهي، الذي يتمثل في إرشاد الأدباء والشعراء وتوجيههم إلى ما يحسن به أدبهم، ويرتفع باتباعه شعرهم، من تلك الأقوال والنصائح، حتى يُعينهم اتباعها على تحسين أعمالهم، وبلوغها حدّ الكمال والجمال الأدبي، من ذلك ما أوردنا آنفا من نصائح، يضاف إليها قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله وجه رجل أوجزَ في الكلام، واقتصر على حاجته". وقوله صلى الله عليه وسلم لجرير بن عبد الله البجلي : "يا جرير إذا قلت فأوجز، وإذا بلغت حاجتك فلا تتكلف". ومنها قول صلى الله عليه وسلم: "لا تكّلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوهم أصلها فتظلموهم". وفي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم السابقة - بما تحمل من توجيهات وإرشادات - نقدات أدبية غاية في الأهمية، فهي تدعو إلى الصدق في القول، وعدم التكلف والغلو فيه كما تدعو إلى ترك التظاهر بالبلاغة والتشادق بالفصاحة، وترك السجع المتكلف؛ لأن هذه الأمور الأخيرة المنهي عنها، قد تبهم المعنى، وتضيع الحقيقة، وقد تلبس الباطل ثوب الحق. هذه النقدات الأدبية بشقيها: الفعلي والتوجيهي، التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعراء والأدباء، والتي وقفنا على طرف منها فيما أوردنا من أمثلة - هذه النقدات تمثل تطورا لتلك المحاولات النقدية التي بدأت منذ العصر الجاهلي، وهي محاولات تعتمد على الذوق والفطرة والطبع وصحة الفهم وسعة الرواية، والخبرة المستفادة من المعارف العامة، مستظلة بروح الدين وتعالميه وآدابه، متجهة إلى اللفظ والمعنى والأسلوب والغرض. كما يلاحظ - أيضا - من نقد الرسول الكريم استعمال المصطلحات النقدية؛ فلأول مرة تستعمل في محيط النقد الأدبي ألفاظ تتصل بهذا الفن، لتدل على سير هذا الفن خطوات إلى الأمام، فاستعمل لأول مرة لفظ (البيان) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا"، ولفظ البلاغة مشتقا منه لفظ (البليغ) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها" ، والرسول يعني بالبليغ: الذي يتقن الصنعة بقصد تزوير القول. ونظرة إلى الأحكام النقدية التي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعر والشعراء نرى أنها أحكام اتسمت بالعموم والإيجاز، كإعجابه بقول لبيد، وطربه لشعر النابغة الجعدي، واستحسانه لبيان عمرو بن الأهتم، وتعديله للمعاني التي أتى بها كل من كعب بن زهير، وكعب بن مالك، من تلك النقدات التي عرضناها من قبل. كما يلاحظ القارئ أنها أحكام اتسمت بالجزئية، فنقده صلى الله عليه وسلم كان متجها إلى اللفظ أو المعنى دون غيرهما من الجوانب النقدية الأخرى، فإعجابه بقول لبيد كان متجها للمعنى، فالمعنى عند لبيد جميل وشريف لانسجامه مع الروح الإسلامية، وكذلك طربه لمعنى النابغة يجري مع غاية ما يطمح إليه المؤمن، حينما جعل نهاية مطمحه الجنة. واستحسان الرسول لبيان عمرو بن الأهتم في قوله عن الزبرقان بن بدر راجع إلى ما يحويه من رائع اللفظ وحسن البيان، وتعديله لشعر كعب بن زهير وشعر كعب بن مالك منصرف إلى المعنى، حيث وجههما الرسول إلى ما ينبغي أن يكون عليه المعنى من تلاق مع الروح الإسلامية، فسيوف الله أكثر اتساقا مع روح الإسلام من سيوف الهند، والمجالدة عن الدين أحسن وأفضل من المجالدة عن الأصل والنسب. كما أن استهجان الرسول لقول بعضهم وقد غلب عليه السجع المتكلف راجع إلى اللفظ، حيث وجهه الرسول إلى ما ينبغي أن يكون عليه النظم من سلاسة في التعبير، وسلامة في المنطق، بعيدا عن السجع المتكلف، والتشادق المقصود، وهكذا.
سفير اللغة و الأدب عضو ممتاز
عدد الرسائل : 1085 العمر : 60 نقاط : 6208 تاريخ التسجيل : 29/07/2008
موضوع: النقد و مقاييسه في عهد الرسول-ص-و عصر الخلافة الراشدة/ج.02 الأحد 1 فبراير 2009 - 16:10
النقد الأدبي ومقاييسه خلال عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الخلافة الراشدة الجزء الثاني للدكتور محمد عارف محمود حسن المدرس في كلية اللغة العربية - جامعة الأزهر
الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه والنقد الأدبي: إذا ما خطونا بالنقد الأدبي - أو بالمحاولات النقدية في عصر صدر الإسلام - إلى الأمام قليلا في عصر الخلفاء الراشدين نجد أن النقد قد سار على النهج الذي ارتضاه الرسول الكريم، وسنه في نظرته إلى الشعر، وإلى ما ينبغي أن يتضمنه من معان وقيم إسلامية، وما يجب أن يكون عليه الأسلوب من سلاسة وسلامة في التعبير، وصدق في القول، وبعد عن التكلف والإغراق. يضاف إلى هذه الأسس ما تميز به كل ناقد من موهبة شخصية، ونزعة ذاتية، وذوق فني. ولقد لمع في مجال النقد الأدبي من الخلفاء الراشدين الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه - ولذا سنقصر الحديث عليه -؛ فله في هذا المجال لمحات نقدية ونظرات أدبية ذوقية، تدل على حاسته الفنية الدقيقة، وعلى مدى فهمه للبيان العربي على أحسن ما يكون عليه الفهم، ولعلّ ما يدل على ذلك خير دلالة رأيه الذي أعلنه في الشعر والشعراء، يقول عمر: "خير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجل بين يدي حاجته، يستميل بها الكريم، ويستعطف بها اللئيم" . ويقول - رضي الله عنه - لأبي موسى الأشعري: "مرْ مَن قبلك بتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب" . وكتب الأدب والنقد تزخر بصور وأمثلة لنقداته رضي الله عنه، تلك النقدات التي تدل على نظرة صادقة وفهم دقيق واعٍ للأدب العربي؛ ذلك لما أضافه رضي الله عنه إلى الأحكام النقدية من أسباب موضوعية مفصلة وعلل وأصول واضحة. ومن نقدات الخليفة عمر - رضي الله عنه - الأدبية: ما روي أنه قال ليلة لابن عباس: "أنشدني لشاعر الشعراء: قال: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ابن أبي سلمة، قال: وبم صار كذلك؟ قال: لأنه لا يتبع حُوشيّ الكلام، ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون فيه، أليس هو الذي يقول: إذا ابتدرت قيس بن عيلان غايةَ من المجد من يسبق إليها يسوَّد سبقت إليها كل طلق مبرَّز سبوق إلى الغايات غير مزنّد ولو كان حمدٌ يخلد الناس لم يمت ولكن حمد الناس ليس بمخْلِد" والناظر في هذا النقد الفني الذي حكم به عمر رضي الله عنه على زهير بن أبي سلمى من خلال تذوقه لشعره يجد أن أساس حكمه قائم على الأساس نفسه الذي توخاه الرسول الكريم في نقده للشعر، حينما دعا إلى ترك التشادق، والبعد عن التكلف، وإلى السلاسة في التعبير وإلى الاتزام الصدق في القول، وتلك هي الأمور التي انتهجها زهير في شعره، وعلى أساسها مدحه عمر، إلا أننا نلمح في نقد عمر شيئاً جديدا لم يعهد من قبل عمر، وهو اتباع الحكم النقدي بدواعيه وأسبابه، فعمر لم يحكم على زهير بأنه أشعر الشعراء فقط، بل أتبع هذا الحكم - كما قلت - بأسبابه وعلله، وهي علل وأسباب تصبح أساسا للأحكام النقدية، وقاعدة ومعيارا يقوّم الشعر والأدب به. وهذا الحكم النقدي وما تبعه من أسباب وعلل، أقيم على جوانب ثلاثة: جانب الألفاظ، وجانب المعاني، وجانب المنهج الذي التزم به الشاعر؛ فمن ناحية الألفاظ وصف عمر رضي الله عنه ألفاظ زهير بالسماحة والألفة وأسلوبه بالوضوح والجمال والسلاسة، والخلو من التعقيد والتركيب والتوعر. ومن ناحية المعاني فقد وصف عمر معانيه بالصحة والصدق. ومن ناحية منهج الشاعر فقد وصف عمر زهيرا بالتزام الحق والصدق، والاعتدال والقصد، والتباعد من الإفراط والعلو. ومن ذلك - أيضا - ما روي أن عمر رضي الله عنه كان يكثر من ترديد بيت زهير: فإن الحق مقطعه ثلاث يمين أو نفار أو جلاء متعجبا من علمه بالحقوق، وتفصيله بينها، واستيفائه أقسامها، وكان يقول: "لو أدركت زهيرا لوليته القضاء لمعرفته" ، وأية معرفة في دائرة الحق واقتضاء الحقوق أدق من التقاء فكر زهير في جاهليته مع ما ارتضاه الإسلام قاعدة بعد ذلك، وما قرره من مبدأ: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" . واستحسان عمر لبيت زهير قائم على أساس ديني؛ لأنه - أي بيت زهير - يلتقي مع أصل من أصول التشريع الإسلامي. وشبيه بهذا الاستحسان - في قيامه على أساس ديني - نقده لشعر سحيم عبد بني الحَسحاس حين أنشد عمر قصيدته التي مطلعها: عُميرة ودّع إن تجهّزت غازيا كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا - وذلك بقوله: (لو كنتَ قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك). وهنا يضع عمر في حكمه ما تقتضيه متطلبات الدين الجديد التي تفرض على الإنسان أن يقدم الدين على كل ما عداه. ومثله - أيضا - نقده للحطيئة حين يقول: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجدْ خير نار عندها خير موقِد وذلك بقوله: "كذب، بل تلك نار موسى نبي الله صلى الله عليه وسلم" . فالشاعر هنا جانب الصدق، وزعم أن نار ممدوحه خير نار، وأنه خير موقد، وفي هذا مخالفة للحقيقة، والتزام الشاعر بالصدق في شعره مقياس نقدي سبق أن انتهجه زهير، وعلى أساسه فضله عمر على سائر الشعراء. ومن نقدات عمر التي تدل على ذوقه وفهمه الدقيق لأساليب الشعر العربي، ما روي أن النجاشي الشاعر قد هجا تميم بن أبيّ بن مقبل وقومه بني العجلان، فاستعدوا عليه عمر بن الخطاب، فاستنشدهم ما قال فيهم، فقالوا: إنه يقول: إذا الله عادى أهل لؤم ورقة فعادي بني العجلان رهط ابن مقبل فقال عمر: إنه دعا، فإن كان مظلوما استجيب له، وغن كان ظالما لم يستجب له، قالوا: إنه يقول: قُبيّلة لا يغْدِرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل فقال عمر: ليت آل الخطاب كذلك! قالوا: وقد قال: ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوُرّاد عن كل منهل قال عمر: ذلك أقل للِّكاك ! قالوا: وقد قال أيضا: تعافُ الكلابُ الضاريات لحومهم وتأكل من كعب وعوف ونهشل فقال عمر: أجَنّ القوم موتاهم، فلم يضيعوهم! قالوا: وقد قال: وما سًمِي العجلان إلا لقيلهم خذ القعب واحلبْ أيها العبد واعجل فقال عمر: خير القوم خادمهم، وكلنا عبيد الله! . ولعلّ في هذا الحوار الذي دار بين رهط بني العجلان وعمر، ما يدل على مدى قدرة عمر على فهم الشعر وتذوقه وإدراك معانيه وعلمه بمراميه. وعلى الرغم من فقه عمر وفهمه للشعر وتذوقه له على النحو الذي ذكرنا، إلا أنه بعث إلى حسان بن ثابت والحطيئة - وكان محبوسا عنده - فسألهما عن شعر النجاشي في تميم بن مقبل ورهطه، فقال حسان مثل قوله في شعر الحطيئة الذي هجا به الزبرقان بن بدر، فهدد عمر النجاشي، وقال له: إن عدت قطعت لسانك! . وفي ندب عمر الخبراء من الشعراء ما يدل على مدى إيمانه بالتخصص؛ إذ لم يكن ذلك الندب لعجزه عن البت فيما عرض عليه بل كان سنا لقاعدة رشيدة، وهي الرجوع إلى أهل الذكر في كل فن من رجاله المنقطعين له قبل القضاء فيه؛ ليكون ذلك أصح للرأي، وآكد في صواب الحكم. وعلى الرغم من أن أحكام عمر النقدية قد اتسمت بالجزئية فاتجهت إلى الصياغة، أو المعاني، ولم يتطرق إلى جوانب أخرى في النص الأدبي.. شأن الأحكام النقدية التي سبقته إلا أننا نجد في نقد عمر شيئاً جديدا لم يألفه القارئ من قبل عمر، وهو أن نقده كان موسوما بالتعليل، ومشفوعا بذكر الدواعي والأساليب في غالبيته. (فعمر هو أول ناقد تعرض نصا للصياغة والمعاني، وحدد خصائص لهذه وتلك، وهو أول من أقام حكما في النقد على أصول متميزة.. فأسند رأيه في زهير إلى أمور محسّة، وأسباب قائمة) . خلاصة: ونخلص من هذا إلى القول بأن النقد في عصر صدر الإسلام - عصر الرسول وعصر الخلافة الراشدة - قد خطا خطوات رشيدة، وترسم مناهج وطرقا أكثر تحديدا، وأوضح أحكاما من سابقتها في العصر الجاهلي، ونخلص - أيضا - إلى أن المقاييس والمعالم النقدية التي اتسم بها النقد الأدبي في هذا العصر، كانت تبدو في المقاييس والمعالم الآتية: أولاً: مقياس الدين: ونعني به - في إيجاز - قياس النتاج الأدبي، وميزانه وتقويمه على أساس من روح الدين وتعالميه التي جاء بها، وهذا يعني أن الناقد الأدبي كان يستحسن من النتاج الأدبي ما جاء متفقا مع الدين وروحه في بناء المجتمع الجديد، كما كان - بالطبع - يستهجن ما جاء مخالفا لهذا الدين ولروحه وآدابه. وقد بدا هذا المقياس واضحا في نقد الرسول صلى الله عليه وسلم لشعر لبيد واستحسانه إياه، وفي إعجابه واستحسانه لشعر النابغة الجعدي، وفي تعديله لشعر كعب بن زهير، وكعب بن مالك، مما أوردناه آنفا. كما اتضح أيضا في نقد عمر رضي الله عنه لشعر الحطيئة وسحيم وتوضيحه لما ينبغي أن يكون عليه الشعر من معنى صحيح أو شريف يلتقي مع الروح الإسلامية، ويبدو - أيضا - في استحسانه لشعر زهير ولبيته الذي بين فيه الحقوق؛ وذلك لالتقائه مع أصل من أصول التشريع الإسلامي.. إلى غير ذلك. ثانياً: المقياس البياني: ونعني به - أيضا - قياس النتاج الأدبي، وتقويمه على أساس ما ينبغي أن يكون عليه الأسلوب من سهولة في التعبير وسلاسة في الألفاظ، ووضوح في التركيب، وبعد عن التكلف والتصنع، على أساس أن التعبير المنطلق السلس أقرب إلى البلاعة والبيان من العمل المحكك المنمق. وقد بدا هذا المقياس واضحا في استحسان الرسول لشعر طرفة، وإعجابه الشديد بقول عمرو بن الأهتم، كما بدا - أيضا - في استهجانه صلى الله عليه وسلم للسجع المتكلف الذي أنكره على قائله. وظهر - كذلك - في توجيهاته صلى الله عليه وسلم التي تمثلت في ذم التكلف والغلو والتشادق والتفيهق، كما اتضح هذا المقياس على نحو محدد في نقد عمر حينما أبدى رأيه في زهير في شعره. ثالثاً: تحديد الأسباب وذكر العلل: اتسم النقد الأدبي في هذا العصر، باتجاهه نحو الدقة في إصدار الأحكام، والوضوح في ذكر الأسباب والتفصيل في تبيان العلل، التي بمقتضاها يتم الحكم على العمل الأدبي وتقويمه، وقد رأينا هذا واضحا جليا في نقدات عمر رضي الله عنه. رابعاً: استعمال المصطلحات النقدية: لأول مرة تستعمل في محيط النقد الأدبي ألفاظ تتصل بهذا الفن؛ لتدل على سير هذا الفن خطوات إلى الأمام فاستعمل لأول مرة لفظ (البيان) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا"، ولفظ (البلاغة) مشتقا منه لفظ البليغ في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال..". خامساً: التوجهات النقدية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يوجه الأدباء والشعراء إلى ما يحسن به أدبهم ويرتفع باتباعه شعرهم، من تلك التوجيهات النقدية، حتى يعينهم اتباعها على تحسين أعمالهم، وبلوغها حد الكمال الأدبي من تلك التوجيهات التي أوردنا طرفا منها آنفا. سادسا: مقياس التخصص: ويتضح هذا المقايس مما سبق أن ذكرناه من استعانة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحسان بن ثابت في الحكم على شعر النجاشي حين هجا تميم بن مقبل وقومه من بني العجلان، وذلك على الرغم من فهم عمر للشعر وتذوقه له، إيمانا منه بمبدأ الرجوع إلى المتخصصين في هذا الفن، فعمر يأبى أن يصدر في حكومة حول الشعر برأيه، ويستدعي من يعدهم نقادا متخصصين ويأخذ برأيهم.
النقد و مقاييسه في عهد الرسول-ص-و عصر الخلافة الراشدة/ج.01