****
لنسر إلى الأمام في طريق الحكمة , بخطوة حازمة ,وبكامل الثقة في النفس. أيا تكن استغل منبع التجربة الذي تشكله أنت ذاتك ألق عنك عدم الرضا الذي يأتيك من كينونتك, اغفر لنفسك أناك , لأن فيك , في كل الحالات , سلما من مائة درجة يمكنك أن ترتقيه إلى المعرفة . القرن الذي تغتم فيه بشعورك أنك مرفوض يعلنك سعيدا أن يكون لك هذا الحظ ... أليس بالضبط على هذه التربة التي تغيظك كثيرا بعض الأحيان , على أرض الفكر المدنس هذه ,نمت أجمل ثمار حضارتنا القديمة...؟ إنك تملك سلطة أن تجعل كل لحظات حياتك : من محاولات , أخطاء , زلات , أوهام , حبك , أملك أن تجعلها تنسجم تماما مع الهدف الذي رسمته لحياتك . هذا الهدف هو أن تصير هو نفسك ... أتظن أن حياة ترمي إلى هدف كهذا ستكون شاقة جدا وعارية تماما من كل لذة ؟ إنك إذا لازلت لم تعلم أنه ليس هناك عسل أشهى من عسل المعرفة و أنه سيشرق اليوم الذي تكون فيه السحب التي تجر الكدر ثديا ترضع منه حليب تسليتك، ستتقدم في السن و ستدرك... أن نفس الحياة التي تنتهي بالشيخوخة تنتهي كذلك بالحكمة بالصفاء اللطيف لهذه الشمس التي هي فرحة العقل الدائمة. السن والحكمة ستلقاهما معا على ذروة واحدة من ذرى الحياة, كذلك شاءت الطبيعة. آنذاك سيكون الأوان قد حان كي يقترب ضباب الموت لكن ليس ليغيظك. قفزة واحدة إلى النور ستكون آخر حركاتك, هتاف حماسي بالمعرفة سيكون آخر أنفاسك.
نيــــــتشه : إنسان مفرط في إنسانيتهص 159
****
فقدان اليقين
تطرح فلسفة الأخلاق مسألة مشروعية المصالح الماثلة في عالم الفرد المسائل ، غير أن هذه المصالح ، التي هي في ذاتها تاريخية، لا تبدو كذلك بالنسبة إليه ، إذ هي تتبدى في نظره في شكل أهداف يسعى إليها " بشكل طبيعي " وهي " بداهة " أهداف صحيحة، طيبة، لها معناها وتضمن المعنى. لكن قد تكون هذه الأهداف متعارضة بعضها مع بعض أيضا، إما لأنه لا يمكن للفرد نفسه أن يبلغها جميعا، وإما لأن بعضها يناقض بعضا، وتجبر الفرد على أن يختار، فيصبح المشكل عندئذ، غير محصور في كيف ينبغي أن نفعل ، بل أيضا : لأي هدف نفعل ؟ (...)
وإذا قدرنا الأمر من وجهة نظر التفكير هذه ، تفكير الفلسفة في صيرورتها الخاصة- لأن الفلسفة عندنا حقيقة تاريخية ومعطى - فإن لكل إنسان أخلاقا. غير أن هذه الأخلاق لا تبدو له نسقا أخلاقيا من جملة أنساق أخرى من الأخلاق قد تساويها قيمة، يل إن هذه الأخلاق في صيغة الجمع لا تكتسب معناها إلا في فترة متأخرة، بعد طول اتصال بمجموعات أخرى لكل منها أخلاقها، وبعد صراعات مترددة أو هزائم . ففي البدء يكون اليقين الأخلاقي : نعرف ما يجب فعله وما يجب تجنبه ، ونعرف المرغوب فيه والمرغوب عنه ، والحسن و السيئ . ثم يفضي صراع أنساق الأخلاق ، واكتشاف تناقضات داخل نسق من الأخلاق ( وهي تناقضات لا تبدو إلا إثر تلك الصراعات ) إلى التفكير في الأخلاق ، أو لنقل ، بصفة أدق ، إن فقدان اليقين أو رفضه هو ما يؤدي إلى ذلك : لأن اليقين لا يدحضه مجرد النقد المنطقي ، ولأن ما قد يحمله في صلبه من التناقضات لا يسبب له البتة حرجا : فالتناقض الداخلي والتنافر لا يحرجان أحدا لأنه لا أحد يكتشفهما قبل أن يتحولا إلى تناقضات خارجية يعبر عنها أفراد آخرون أو تصبح محسوسة من جراء فشل مبادرات " كان ينبغي" أن تنجح .
فالتفكير الفلسفي بشأن الأخلاق ينشأ من الأخلاق المحسوسة، ولكنه لا يخضع لحكم تلك الأخلاق . وتتمثل القضية عنده في استرجاع اليقين المفقود ( أو ما يعادله ) ولا تطرح القضية إلا حيث تمت زعزعة تلك الأخلاق ، فتطرق إليها الشك ولم تعد من قبيل ما هو مسلم به ولا قادرة على توفير الأساس المتين الذي يبحث عنه التفكير. وبذلك تجعل وجهة نظرها، وهي مختلفة بالضرورة عن وجهة نظر الأخلاق المحسوسة، من الفيلسوف خائنا لأخلاق مجموعته في نظر الذين يسلمون بتلك الأخلاق دون أن يخامرهم سؤال .
إيريك فايل
" فلسفة الأخلاق "
***
مساءلة القيم الأخلاقية
ما هي الظروف التي ابتدع فيها الإنسان أحكام القيمة، قيمة ما هو طيّب وقيمة ما هو خبيث ؟ وما قيمة هذه الأحكام نفسها ؟ أتراها - إلى حد الآن - عرقلت تطوَر الإنسان أم ساعدت عليه ؟ أتراها علامة ضيق الحياة وافتقارها وتقهقرها ؟ أم هي - على العكس من ذلك - تعبر عن امتلاء الحياة وقوتها وإرادتها وشجاعتها وأملها ومستقبلها ؟
لا يبدو مشكل قيمة الشفقة ومشكل أخلاق الشفقة للوهلة الأولى ( وأنا من أعداء تأنيث العواطف المخجل الذي نراه اليوم )، سوى مسألة معزولة، أو نقطة استفهام على حدة. غير أنّه سيحدث بالنسبة إلى من توقف هنا، وبالنسبة إلى من سيتعلم السؤال هنا، ما حدث لي : سينفتح أمامه أفق جديد رحب ، يتملكه كالدوار، وتنبعث أمامه أصناف شتى من الحذر و الشك والخوف ، فيتزعزع إيمانه بالأخلاق ، بكل نسق من الأخلاق ، ويعلو - آخر الأمر - صوت مطلب جديد يفرض نفسه . ولنعين هذا المطلب الجديد :
إننا بحاجة إلى نقد القيم الأخلاقية، ويجب أن نبدأ بالتساؤل بشأن قيمة هذه القيم نفسها، ويفترض هذا معرفة ظروف نشأتها وملابساتها وظروف نموّها وملابساته ، وظروف تطوَرها وملابســـــــــــــــاته
( الأخلاق من حيث هي نتيجة، الأخلاق باعتبارها أعراضا ، وباعتبارها قناعا، وباعتبارها نفاقا، وباعتبارها مرضا وباعتبارها سوء تفاهم . ولكن أيضا : الأخلاق بما هي سبب . أو دواء، أو دوافع ، أو عراقيل أو باعتبارها سما )، و بإيجاز نقول : معرفة ليس لها نظير إلى الآن ، ومعرفة لم يخطر على البال أن نتمنّاها لأننا اعتبرنا قيمة هذه " القيم " معطى، واعتبرناها حقيقية، تتجاوز حدود كل ما يمكن التساؤل بشأنه . ولم يتردد الناس البتة - إلى الآن - في إعطاء الإنسان " الطيب " قيمة أرفع من القيمة التي يعطونها " الخبيث "، وهي قيمة أرفع في معنى رقي الإنسان و نفعيته وازدهاره بوجه عام ( بما في ذلك مستقبل الإنسان ) ولكن ما العمل لو كان العكس صحيحا ؟ وما العمل لو كان في الإنسان " الطيب " أيضا أعراض النكوص أو كان فيه أيضا خطر أو إغراء أو سم أو مخدر يمكن الحاضر من أن بعيش بشكل ما على حساب المستقبل ، ولربما كان له ذلك بأكثر رفاهة، و بأقل مخاطر ولكن أيضا بطريقة أكثر سخفا وأشد وضاعة، وبذلك ، فقد يكون الخطأ خطا الأخلاق إذا لم يدرك الجنس البشري أبدا أعلى درجات القوة والبهجة التي يطمح إليها، وبذلك ، قد تكون الأخلاق أخطر الأخطار .
نيتشة
" جينيالوجيا الأخلاق "
***
تحصيل الفضيلة
مسكويــــــــــه
إن الإنسان من بين جميع الحيوان، لا يكتفي بنفسه في تكميل ذاته، و لابد له من معاونة قوم كثيري العدد حتى يتمم به حياته طيبة، ويجري أمره على السداد، ولهذا قال الحكماء: إن "الإنسان مدني بالطبع" أي هو محتاج إلى "مدينة" فيها خلق كثير لتتم له السعادة الإنسانية، فكل إنسان بالطبع و بالضرورة يحتاج إلى غيره، فهو كذلك مضطر إلى مصافاة الناس و معاشرتهم العشرة الجميلة و محبتهم المحبة الصادقة، لأنهم يكملون ذاته و يتممون إنسانيته، و هو أيضا يفعل بهم مثل ذلك. فإذا كذلك بالضرورة فكيف يؤثر الإنسان العاقل العارف بنفسه التفرد والتخلي؟ (...).
فالقوم الذين رأوا الفضيلة في الزهد و ترك مخالطة الناس و تفردوا عنهم ــ إما بملازمة المغارات في الجبال، وإما ببناء الصوامع في المفاوز،(...) ــ لا يحصل شيء من الفضائل الإنسانية، (...) وذلك أن من لم يخالط الناس ولم يساكنهم(...) لا تظهر في العفة (...) ولا العدالة، بل تصير قواه و ملكاته التي ركبت فيه باطلة، لأنها لا تتوجه لا إلى الخير و لا إلى الشر. فإذا بطلت ولم تظهر أفعالها الخاصة بها صاروا بمنزلة الجمادات والموتى من الناس.
لذلك يظنون ويظن بهم أنهم أعفاء وليسوا بأعفاء، وأنهم عدول وليسوا بعدول، وكذلك في سائر الفضائل (...). والفضائل (...) هي أفعال وأعمال تظهر عند مشاركة الناس و مساكنتهم و في المعاملات وضروب المجتمعات. ونحن نعلم ونتعلم الفضائل الإنسانية التي نساكن بها الناس ونخالطهم ونصبر على أذاهم، لنصل منها وبها إلى حال أخرى.
مكسويــــــــــه
تهذيــــــــــب الأخـــــــــــــلاق
***
دراسة الأخلاق
إن طموح الفلاسفة كان يرمي غالبا إلى ابتكار أخلاق جديدة تختلف أكثر الأحيان في مواضع أساسية عن الأخلاق التي يسير على نهجها المعاصرون لهم أو للذين يسبقونهم فالفلاسفة خليقون بأن يكونوا ثوارا أو محطمي صور أما المشكلة التي أعرضها فهي تتطلب معرفة ما تتكون منه الأخلاق أو ما تكون قد تكونت منه لا الأخلاق على نحو ما يتصورها عليه التفكير الفردي الفلسفي ما هو قائم منه و ما سلف.
فالأمر يقتضي دراسة للأخلاق كما مارستها الجماعات الإنسانية بالفعل ومن ثمة ترى المذاهب الفلسفية تفقد بناء على هذا الاتجاه قدرا كبيرا من قيمتها...
و قد يلتبس الأمر إذا ظن بي أني أرفض هذه النظريات تعسفا. فأنا لا يهمني من أمرها غير ما يضفى عليها أحيانا وعلى نحو مبالغ فيه ـ من سمات الأولوية والامتياز. ولكن يبقى بعد أنها هي في حد ذاتها وقائع وأنها كذلك أمور مرشدة, تستطيع أن توقفنا على ما يمر بالشعور الأخلاقي في فترة ما فهي من هذه الجهة جديرة ولا شك بالعناية والاهتمام و لكني أرفض التسليم في ما يقال بعد ذلك من أن هذه النظريات تستطيع ـ وذلك هو شأنها ـ أن تفسر الحقيقة الأخلاقية تفسيرا دقيقا و ممتازا على نحو ما يفسر به علم الطبيعة أو علم الكيمياء حقيقة الوقائع التي تتعلق بالمجال الفيزيوـالكميائي.
إميل دركهايم: علم الاجتماع و الفلسفة ص 233 ترجمة حسن أنيس